رحى للمدن القديمة

ولادة الموسيقى السريانية

 

خرجت المسيحية لتنتشر عبر العالم، وكانت سورية الأرض القاعدية التي ترسخت فيها المواقع الأولى للدين الجديد ولايزال الوجود الراسخ للمسيحيين في سورية الشاهد إلى يومنا هذا على عمق التفاعل بين المنطقة والمسيحية ولاتزال المسيحية تشكل واحدة من المنابع الثرية للثقافات الحية خاصة بعد ولادة الموسيقى السريانية .

 

قصة وتاريخ الموسيقى السريانية:

إبان مرحلة نشوء الكنيسة السريانية في الرها (أورفا حاليا) كان المؤمنون يرتلون ترانيم بسيطة مأخوذة من التراث اليهودي العبري مثل (مزامير داود، وصلاة قدوس قدوس قدوس وغيرها من أدية مختصرة ) وكانوا يقرؤون إلى جانب هذه التراتيل بعض الأسفار المقدسة، وخلال القرون الميلادية الثلاثة الأولى شرع بعض الآباء بوضع نصوص للصلوات والتراتيل بألحان محلية دون التخلي عن التراتيل المعتمدة حتّى ذاك الوقت .

لم تكن الموسيقى السريانية بالبداية مجرد موسيقى دينية، بل موسيقى أثنية أولاً، فهي تمثل موسيقى الشعب الآرامي الذي كان يسكن سوريا الكبرى.

كان تكوين النغمات الموسيقية ركيزة أساسية مبنية على عناصر الطبيعة الأربعة (الماء، الهواء، التراب، والنار)، وقد ابتكر الأباء الموسيقيين الأوليين انغاماً امتزجت بها أحاسيس الإنسان لتكون متناسبة لمعاني النصوص الدينية ومناسباتها.

يعود منشأ الألحان السريانية إلى مدينة انطاكيا ذات الثقافة اليونانية والسريانية، وهذا متفق عليه نظرياً لأن الفكرة انطلقت من انطاكيا،لكن مختلف عليه واقعياً لأن بعض المدن السريانية الأخرى ذات الطابع اليوناني كان لها دورها في نظم الألحان الثمانية وبوضع أنواع الأناشيد الكنسية اليونانية وتلحين الكثير من النصوص الدينية .

كما وتُعتبر مدينة الرها السريانية، ذات الثقافة السريانية الممزوجة باليونانية، المركز الأساسي في بناء ونشأة وانطلاق ألحان الكنيسة السريانية، وابتكار نظام النغمات ( إكاديس) الخاص بالسريان وتطويره وتنظيم ألحانه .

فهي المملكة الأولى التي أعلنت مسيحتيها كدولة في زمن الملك (ابجر الخامس)، كما أنّها كنت عاصمة للثقافة السريانية وذلك لامتلاكها مدراس عظيمة ترعرع  وصقل فيها الفكر المسيحي.

بدأت قصة الموسيقى السريانية عندما قام المؤلف الفيلسوف (برديصان الرهاوي) عام 154-222م بوضع 150 ترنيمة قّلد بها مزامير داوود النبي وكان موسيقياً بارعاً استطاع وضع ألحان تجذب المراهقين والشباب، فالتف حول فرقته الموسيقية مشاركين الغناء والرقص والخمر واللهو وكانت مضامين هذه الأناشيد والتراتيل مخالفة لمفاهيم الايمان المسيحي القويم.

في طليعة من اشتهر بنظم الأنغام الموسيقية وتلحينها وتعليمها القديس مارأفرم السوري (306-373)  حيث رأى أن الحان برديصان وهي نوع من البدع التي تلهي الشباب عن واجباتهم الدينية فوضع أناشيد وترانيم دينية جديدة لمفاهيم مسيحية قويمة في الحان جميلة ومحببة فقام بتشكيل فرقة كورال من بنات الرها لتقدم هذه التراتيل الجديدة في صلوات المساء والصباح والقداس والأعياد وهكذا استطاع مار إفرام جذب الشباب وإعادة معظمهم الى الكنيسة.

وكانت الأناشيد التي ألفّها عبارة عن تراتيل دخلت الطقس الكنسي وأناشيد ومداريش ضد أهل البدع .

انتشرت الموسيقى السريانية الدينية عن طريق المرأة وبدأ هذا الدور في القرن الرابع للميلاد عندما تأسست أول جوقة من جوقات التراتيب النسائية بالكامل وشاركت بها نسبة كبيرة من النساء .

 

أقسام الموسيقى السريانية :

انشاد كنسي سرياني:

تلعب الالحان الكنسية دور أساسي لا يستغنى عنه قط في الكنيسة السريانية لما لهذه الألحان من تأثيرات جمّة ومختلفة على المصلين، بالإضافة لكونها وسيلة تواصل مع الرب وبين المؤمنين فهي أيضاً أداة فعّالة لتهذيب الذاكرة وحفظها وعاملة في نفوس المؤمنين .

وتكتسب هذه الألحان أهمية الكبرى في الكنيسة السريانية من خلال دورها في استقطاب الشعب إلى الصلاة ومساهمتها سابقاً في منافسة هياكل الوثنية المليئة بالموسيقى ومن تأثير اللذة المتولدة من سماعها والاستعانة بها على النشاط في العبادة.

ولصوت الإنسان المنفرد أهمية خاصة وكبيرة في أداء الالحان السريانية لأنّ الموسيقى الكنسية تعتمد بكلتيها على السمع، وعلى تناقلها شفهياً بالاعتماد على الكتب الكنسية التي تحفظ نصوصها .

أمّا الطريقة السريانية طريقة كنيسة السريان الأرثوذكس في أداء الالحان  فهي قائمة على قواعد وأسس عديدة ومميزات كثيرة وهي اركان رئيسية يعتمد عليها في الانشاد الكنسية منها : البساطة في التنغيم والأداء وتسمى بالطريقة البسيطة لكونها لا تحوي على الفخامة في الأداء، لاتحتوي على التطويل في التنغيم والشعبية وتتميز معظم الكنائس السريانية باستخدام هذه الطريقة، فالكنيسة السريانية تمثل كنيسة الشعب وليست كنيسة الملوك والأمراء والطبقات الحاكمة كما هي الحالة في الكنيسة البيزنطية التي تعتبر قائمة على فكرة الفخامة والعظمة في كل هيكليتها، الطريقة الملوكية في آداء الألحان وإقامة الشعائر الدينية.

 

مميزات الموسيقى السريانية:

  • قسمت الموسيقى السريانية إلى موسيقى حزينة وبكائية تلعب على العاطفة والمشاعر والاحاسيس
  • الهدوء والرصانة الخشوع للوصول الى الروحانية. استبعاد الزعيق والصراخ ورفع الأصوات أثناء آداء ألحان الصلوات.
  •  التركيز على النصوص الدينية لفهم معانيها الروحانية أثناء القيام بآداء ألحانها، أكثر من التركيز على التطريب الذي يأخذنا الى عدم التركيز .
  • المسكنة والتذلل في الأداء يتم التنغيم بطريقة تحوي الكثير من التذلل وانكسار النفس وانسحاق القلب وتواضع كبير.

من خلال التعمق بجوهر الألحان السريانية الكنسية تبين بأن النغمة يجب أن تكون خادمة للمعنى وليس العكس والسبب انه يجب ادخال معنى النصوص الدينية المغناة على ذهن ونفس المصلي وبالتالي اشتراك العقل والقلب والروح في التفاسير اللاهوتية في العصر اللاحق قام الموسيقار السرياني نوري إسكندر بتنويط الحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية كما هي منظمة في الكتب الكنسية،ودراسة الأجناس الموسيقية لألحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية واستخرج منها خصائص الموسيقى السريانية .

نوري اسكندر
                                                                       الموسيقار نوري إسكندر

 

  • بدأت من أنّ الألحان السريانية هي موسيقى متوارثة ومتناقلة شفهياً.
  • تمتاز بالبساطة والعفوية وهي من نوع السهل الممتنع.
  • سلالمها شرقية تحوي ثلاثة أرباع الصوت .
  • تعتمد على أجناس موسيقية ثلاثية رباعية وخماسية.
  • العبارات الشعرية لها تراكيب لحنية خاصة بها .
  • اقتصار الالحان غالبا على درجات قليلة في التركيب اللحني.
  • ارتباط القالب اللحني بالشعري
  • واخيراً ارتباط الألحان بالروح الجماعية.

 

 الانشاد الكنسي السرياني  :

يقوم الانشاد الكنسي على أساس واضح وهو عدم مرافقة الانشاد الآلات الموسيقية له، أي ان الانشاد يكون فردي للشمامسة والكهنة كما الانشاد الجماعي للجوقات لا ترافقه آلات موسيقية، قد تضمنت الالحان السريانية أناشيد يونانية لازالت تستعمل الى يومنا هذا.

 

إذا قارنا الأغاني المنتشرة حتى اليوم في أرياف سورية وفي الجنوب والجبال والساحل والشمال مع الألحان السريانية سنجد تشابه مذهل في الاجناس والايقاعات والألحان، مما يثبت أن معظم الأغاني الشعبية السورية هي آرامية، ماعدا المناطق الشرقية حيث ينتشر البدو والقبائل وحيث تصبح الأغاني الشعبية قريبة من تراث شبه الجزيرة العربية .

لقد نسج السريان على منوال أجدادهم الأقدمين فشحذوا قرائحهم، ونظموا أشعاراً أدبية وموشحات دينية عديدة، ووضعوا لها أوزاناً محكمة وقياسات مضبوطة ناهضوا بها أهل البدع وذاع صيتهم في أنحاء العالم بأنّهم أول من صنع اللحن والموسيقى.

 

 

المراجع:

1-حسان عباس: الموسيقى السورية التقليدية.

2-نينوس اسعد صوما: الموسيقى السريانية الكنسية.

3-دي طرازي، فيليب: عصر السريان الذهبي.