رحى للمدن القديمة

فن الفسيفساء من الشرق القديم إلى العصر الاسلامي

فن الفسيفساء هو أحد الفنون التطبيقية الزخرفية، وهو تعبيرٌ وامتدادٌ لفن الرسم والتصوير. ويعدُّ هذا الفن رمزاً من رموز الحضارة، وأحد الدلائل المادية التأريخية لمباني العصور القديمة.

مفهوم الفسيفساء

الفسيفساء عبارة عن قطع حجرية صغيرة ملونة تُصفّ بجانب بعضها على أرضية من الملاط بأسلوب مدروس لتُشكل الرسم والمشهد المخطط له، وهو إمّا مشهد هندسي أو نباتي أو تصوير لموضوع ديني أو أسطوري.

أصل كلمة فسيفساء Mosaic من مصطلح يوناني وتُعرف في المغرب العربي باسم التزليج، ولقد تطورت بشكلٍ جلي في العصر الكلاسيكي في أواخر القرن الرابع ق.م واستمرت حتى العصر الإسلامي.

اُستخدمت الفسيفساء في تزيين الجدران والواجهات وفي رصف أرضيات المباني المدنية والدينية لا سيّما الكنائس، وأصبحت تُزين بها القباب والمحاريب والنصب التذكارية، وأصبح للفسيفساء هدف زخرفي وديني.

 

فن الفسيفساء منذ العصور التأريخية حتى العصر الاسلامي

الفسيفساء في حضارات الشرق القديم

أحد أقدم الأمثلة عن الفسيفساء في سورية منذ الألف الأول ق.م، ما عثر عليه في موقع تل أحمر في الجزيرة السورية العليا وهي أرضية من حصى نهرية ملونة بالأبيض والأسود تُشكل مشهداً هندسياً، وفي بلاد ما بين النهرين في أوروك في الألف الرابع ق.م كانت تُكسى الجدران بالفسيفساء على شكل مخاريط ملونة.

جدار من معبد لعبادة الإلهة إنانا في أوروك (الوركاء) في بلاد الرافدين من الألف الرابع قبل الميلاد
جدار من معبد لعبادة الإلهة إنانا في أوروك محفوظ في متحف برغامون في برلين
أرضية فسيفسائية من موقع تل أحمر (تل برسيب) في سورية من الألف الأول قبل الميلاد
أرضية فسيفسائية من موقع تل أحمر محفوظة في متحف حلب الوطني

 

فن الفسيفساء في العصر الهلنستي

تعتبر الفسيفساء اليونانيّة استمرارية لتطور الفسيفساء في الشرق القديم، حيث ساهم تطور مشترك بين مناطق بلاد الشام والأناضول واليونان في تشكيل فن الفسيفساء الذي ازدهر مع تطور الحضارة اليونانية وانتشار الثقافة الهلنستية في كامل مناطق الشرق القديم خلال القرون القليلة السابقة للميلاد.

يقوم الفن الفسيفسائي الهلنستي على رصف الأرضيات وتغطيتها بمكعبات حجرية قد تكون رخامية يقل حجمها عن 1 سم3 وللحصول على دقة أكبر يتمّ اللجوء إلى عناصر أصغر مختلفة الألوان، واُعتمد أحياناً على حصى الأنهار وتمّ بخلال هذه المكعبات رسم لوحات ذات موضوعات مختلفة نباتية وهندسية وحيوانية أو زخارف إنسانية ضمن معاني ميثولوجية، واستخدم اليوناني سابقاً خطوط الرصاص أو كسر الفخار والطين المشوي لإبراز محيط اللوحة.

ونذكر من الأمثلة اللوحة التي تُمثل معركة إيسوس التي دارت بين الاسكندر المقدوني والملك الفارسي داريوس في الألف الأول ق.م، وفسيفساء معبد أولمبيا في اليونان، وأرضيات فسيفسائية في بومبي في إيطاليا، ولوحة من الإسكندرية تعود إلى القرن الثاني ق.م.

فن الفسيفساء في الاسكندرية في مصر
فسيفساء من الاسكندرية تعود إلى القرن 2 ق.م
لوحة معركة إيسوس بين الاسكندر المقدوني ودارا الاول في متحف نابولي في إيطاليا
معركة إيسوس معروضة في المتحف الوطني للآثار في نابولي

 

فن الفسيفساء في العصر الروماني

بقي هذا الفن تحت التأثيرات الهلنستية خلال العصر الروماني، وكانت الموضوعات الرئيسية من الأساطير أو المواضيع الفلسفية وأحياناً من الحياة الأرستقراطية. وتعتبر القرون الثلاثة الأولى الميلادية العصر الذهبي للفسيفساء المعتمدة على الميثولوجيا الاغريقية والرومانية، ونُفذت بأسلوب يوحي بالبُعد الثالث. واتسع انتشارها في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط.

مع اتساع وازدهار الإمبراطورية الرومانية انتشرت ورش الفنانين لتصنيع الفسيفساء على مستوى عالي من الجودة، واتبعوا زخرفة اللوحات بموضوعات بسيطة على خلفية بيضاء وتزايد الاهتمام بموضوع تصوير الطبيعة.

فن الفسيفساء في روما
أرضية فسيفسائية من روما تصور الإله باخوس تعود إلى القرن 3م
فسيفساء من أفاميا في سورية
فسيفساء من أفاميا

 

ولقد تمّ العثور حديثاً في عام 2022م على أرضية فسيفسائية في الرستن في حمص تعود إلى العصر الروماني تصوّر عدة مشاهد منها حرب الأمازونيات.

 

فن الفسيفساء في العصر البيزنطي

ظهرت تغيرات فنية في العصر البيزنطي خلال القرن الرابع ميلادي، مع الاعتراف بالمسيحية كدين رسمي حيث كان له انعكاس على الفن ومواضيعه، فمع ازدياد عدد الكنائس اختفت الموضوعات الأسطورية وانتشرت الموضوعات الهندسية والنباتية والحيوانية وذلك بتعليمات دينية.

وعثر على العديد من اللوحات العائدة إلى العصرين الروماني والبيزنطي نذكر منها، لوحات الفسيفساء ذات السمات الرومانية في شهبا وتدمر، وأفاميا ومعرة النعمان وأنطاكية (من العصرين الروماني والبيزنطي)، وفسيفساء كاتدرائية القديسة صوفيا في القسطنطينية من العصر البيزنطي.

فن الفسيفساء في العصر البيزنطي
فسيفساء كاتدرائية آيا صوفيا
فسيفساء معروضة في متحف معرة النعمان
فسيفساء معروضة في متحف معرة النعمان

 

فن الفسيفساء في العصر الاسلامي

شهدت الموضوعات المصوّرة على الفسيفساء في العصر الإسلامي نقلة نوعية فتم ّ الابتعاد عن تصوير الشخصيات والمواضيع الميثولوجية والتركيز على التشكيلات الهندسية والمفاهيم الطبيعية وتطوريها، حيث صُوّرت الجنة من خلال نهر بردى وغوطة دمشق المنفذة على جدران المسجد الأموي. فكان هذا التحول في مضامين موضوعات الفسيفساء في العصر الأموي مرحلة تحول أخيرة لهذا الفن.

فن الفسيفساء في العصر الاسلامي في الجامع الأموي في دمشق
الفسيفساء في الجامع الأموي في دمشق

تصنيع الفسيفساء

صُنّعت الفسيفساء كما ذكرنا في العصور القديمة في مصانع خاصة من قبل صُنّاع وفنانين بإشراف متخصصين، وبالنسبة لآلية التنفيذ:

يتم تحضير المكان بوضع طبقتين من المواد اللاصقة ثم ينقل الرسم المنفذ على الورق أو القماش، يلي هذه المرحلة صَفّ المكعبات المُصنّعة من مواد حجرية أو زجاجية أو معدنية من ذهب وفضة أو أحجار كريمة ويتم ترتيبها بالتتابع.

وأوضح عفيف بهنسي صناعة الفسيفساء كما يلي: ” تُقطّع الأحجار الطبيعية بمنشار ومقراض، وهي ذات ألوان محددة. أما الفصوص الزجاجية فتحضّر من السيليكات السائلة بفعل الحرارة العالية وتُلون بالأكاسيد، وتُصب في قوالب محجرة على شكل مربعات. ويبدأ إعداد اللوحات التحضيرية، ثم تُوزع الفصوص الملونة حسب الصور في تلك اللوحات.

تُثبَّت الفصوص برصفها على القماش الذي خُطَّ عليه الموضوع الفني وتُلصق مقلوبةً فصاً فصاً بوساطة مادة النشا أو غيرها، ثم يُقلب القماش الحامل لها على سطح واسع. وتُسكب مادة ملاطية كانت مؤلفة من الجص مع القصب، ثم أصبحت من الاسمنت المسلح بالحديد، وحديثاُ تُستعمل مادة البولي إستر Polyester، ومادة أخرى تدعى الايرولام.

وبعد جفاف المادة الملاطية يُنقل اللوح الفسيفسائي إلى المكان المُراد ويُثبّت بكلاليب حديدية وتُنزع عنه الأقمشة”.

بالنسبة لصناعة الفسيفساء في العصر الحديث الحالي فتنتشر في مشاغل ومعامل خاصة في معرة النعمان بالإضافة إلى بعض المشاغل الفردية في مدينة دمشق. ويتم استخدام أحجار من صخور طبيعية أو يتم تحضير المكعبات من خليط كيميائي يتكون من مواد طبيعية وأكاسيد ملونة، وتُستخدم المطرقة الخاصة بالفسيفساء والمقص الكماشة والكماشة بمختلف أشكالها وأحجامها. وتعكس المواضيع المختارة الحالية ثقافة المجتمع. وتعتبر معرفة آلية تصنيع الفسيفساء خبرة هامة وحيّة مستمرة، فلذلك صُنفت كحرفة من الحرف التقليدية ضمن مجالات التراث الثقافي غير المادي.

 

وعلى الرغم من الصعوبات المُرافقة لهذه الحرفة فهي مستمرة وإن كانت بنسبة أقل من العصور السابقة، وكما ذَكر عالم الفن البيزنطي شارل ديل بأنّ “القصد من وراء الفسيفساء التجميل والخلود”.

 

المراجع

  • عبد الكريم، مأمون. آثار العصور الكلاسيكية في بلاد الشام. منشورات جامعة دمشق 2008م.
  • كيوان، خالد. آثار العصور الكلاسيكية الرومانية. منشورات جامعة حلب 2018م.
  • المقداد، خليل. الفسيفساء السورية والمعتقدات الدينية والميثولوجيا (دراسة مقارنة). منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2008م.
  • التراث الثقافي اللامادي السوري، المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية ج1. الأمانة السورية للتنمية، وزارة الثقافة 2014م.