رحى للمدن القديمة

عبادة الإله حدد في حلب … تمجيد وأضاحي

تواجدت في منطقة الشرق العربي القديم في الألف الثاني ق.م عدة ممالك لكلٍّ منها نفوذٌ واسعٌ. ومن أهم ممالك سورية الشمالية في تلك الفترة مملكة يمحاض (يَمْخَدْ في النصوص المسمارية) التي اتخذت من حلب عاصمةً لها بمعبدها المُخصص لعبادة الإله حدد، فلنتعرف على طقوس عبادته وماذا يُقدّم له؟

 

يمحاض وقلعة حلب “مركز عبادة الإله حدد”

بلغت مملكة يمحاض قمة ازدهارها وقوتها السياسية والاقتصادية، وفضلاً عن مساحتها الجغرافية الواسعة -الممتدة من مملكة كركميش شمالاً إلى مملكة قَطْنا قرب حمص جنوباً ومن مملكة مسكنة على الفرات شرقاً حتى البحر المتوسط غرباً- تميزت بمكانة دينية هامة فكانت مركز عبادة أحد أكثر الآلهة قُدسية، وهو إله الطقس “الإله حدد” الذي تُقَدَم له الأضاحي والقرابين والنذور ويُحتفل بشعائره في معبده في قلعة حلب.

عُرف باسم حَدَد في حلب، ووُرد بصيغ متعددة مثل أدد، وأدّو في الأكّدية، وهدّا خلم أي هدّا خلب في إبلا، وهدد في أوجاريت، وحَدَد في الآرامية، وغيرها.

طقوس عبادة الإله حدد، أدد، هدد، هدّا منذ الألف الثالث ق.م
خريطة توضح حدود مملكة يمحاض

عبادة الإله حدد منذ الألف الثالث ق.م

يؤكد أرشيف إبلا وماري بأن حلب كانت مدينة دينية من قبل قيام مملكة يمحاض. فلا تُذْكَر إلا وهي مرتبطة بذكر إلهها هَدّا، وهو أحد آلهة إبلا الرئيسة. ففي الألف الثالث ق.م كانت “خلب” مركز عبادة رئيسي بالنسبة لمملكة إبلا.

فقُدِمت الأضاحي للإله حدد الحلبي حتى في إبلا، واحتُفِلَ بشعائره في اليوم المُكرس له في الشهر الثامن (إتي- جيبل Iti gibil) الذي أخذ اسمه من عبارة “تقدمة لهدّا”. وله معبد في حلب كَثُر ذكره في النصوص، تُوقَف له الأعطيات والهبات، ويُلْحَق بخدمته عدد من العمال والخدم والمنشدين يُخَصصون له، ويقصده أهل المنطقة والغرباء لتأدية واجب العبادة.

حيث يجري تقييم التقدمات المقامة لحدَّا في حلب وإحصاء عددها من رؤوس الأغنام وأرغفة الخبز ودقيق القمح وجرار النبيذ. وتُميز قوائم الأضاحي بوضوح بين العبادات في إبلا وتسليم الغنائم لأداء الشعائر في المراكز الأخرى.

وتُكتب لمعبد إله خلب، تقدمات من الفضة والذهب قدمها الملك إلى معبد حدَّا في خلب ربما من أجل أعمال الصيانة.

سلطة الإله هدّا “سيد العرش”

لطالما ارتبط مصير حلب بمصير إله طقسها في الألف الثاني ق.م، فتُثبت النصوص قوة الإله في تحقيق النصر في الحروب وتُظهر تبعية ملوك يمحاض وماري له.

فحمل ملوك يمحاض لقب “محبوب أدد” وَنُقِشَ في أحد الأختام “ياريم ليم بن ابان، ملك يمحاض، خادم أدو”.

وفي أحد النصوص يُعْلِم ملك حلب ياريم ليم الأول ملكاً من بابل بأن إلهه أنقذه “ولقد أُنقِذت مدينة بابل بفضل جيوش الإله أدّو إله ياريم ليم، ووهبت لك الحياة لك ولمدينتك”.

ووفقاً للشواهد الكتابية من ماري عندما يأبى الملك زمري ليم الذي اعتلى العرش بفضل مساعدة ياريم ليم التخلي عن أي ملكية له في المنطقة، يقوم الإله حدد (حدّا) الكلاسي بتهديده عن طريق وحي إلهي، إذ يقول:

“أنا سيد العرش، سيد الأرض والمدينة. أما إذا حَقق رغبتي فسأهبه عرشاً إثر عرش، منزلاً تلو منزل، أرضاً إثر أرض، مدينةً تلو مدينة. وقد أُسلمه بلده من الشرق إلى الغرب”.

وعلى الجهة الثانية من الرقيم كُتب “هدّا إله حلب”، ونصه: “ألست أنا أدّو سيد حلب الذي فقهك من بين الرعية، والذي أوصلك إلى العرش وإلى منزل والدك؟”

ويَظهر ولاء وامتنان زمري ليم للإله في نصٍ ذُكر فيه:” العام الذي قدم زمري ليم فيه تمثاله لحدَّا الحلبي”. فيتسلم ملك حلب التمثال كي يضعه في معبد حدد في حلب لكسب البركة والرضا.

 

 معبد الإله حدد في قلعة حلب

دلائل على عبادة الإله حدد في معبد إله الطقس في قلعة حلب
رسم توضيحي للملك تايتا والنقش الكتابي

الدليل الأهم على تعبد الإله من معبد حدد في قلعة حلب، وهو نقش للملك تايتا على أحد الأنصاب الحجرية. يُصّور الإله حدد والملك تايتا حاكم مملكة تُدعى فلسطين في موقف تقديس أمام الإله، مصحوب بنقش هيروغليفي لوفي يشرح فيه شعائر العبادة.

بعض ما ذُكر في النقش على لسان تايتا: “أنا الملك تايتا ملك فلسطين، من أجل إلهي، إله العاصفة الحلبي أنا كرمت رغبته.. الذي يأتي إلى هذا المعبد للاحتفال (لتمجيد، تقديس) الإله، دعه يُضَحي (يقدم قربان) ثور وأغنام”.

كُشِـف في الزاويـة الشـمالية مـن المعبـد عـن قاعدتـين مدورتـين قطـر كل منهـا 1.2م، تَقَدَمَتـا الجـدار الشـمالي للقاعة المستطيلة الشعائرية. لم تُعـرف وظيفتهـما تمامـاً، رُبمـا وُضعـت عليهـما نـذور أو أدوات شـعائرية.

 

 

 

 

 

 

ختاماً بالنسبة لإحدى الشواهد من الألف الأول ق.م، ذُكر في حوليات الملك شلمنصر الثالث تقديمــه الأضاحــي للإلــه حـدد في معبـد حلـب، لكسـب رضا الإلـه عـلى مـا سـيقوم بـه مـن أفعـال حربية عنيفة مُطالبـاً إيـاه بمنحـه الغفـران والمباركـة “دنـوت مـن حلـب (خلـمان) وقدمـت الأضاحـي أمـام أدد/حـدد إلـه حلـب….

معبد إله الطقس في قلعة حلب
معبد الإله حدد في قلعة حلب

الإله حدد هو أحد أهم آلهة الهلال الخصيب. امتدت عبادته من الألف الثالث ق.م إلى ما بعد دخول الاسكندر إلى الشرق،  فقَدسته مختلف الشعوب وملوكها من مختلف البقاع بأسماء عدة. وقدمت له ما باستطاعتها من قرابين وأضاحي تَقَرُباً منه وحمداً له، ولا نزال نلتمس هذه العبادات الدينية إلى يومنا هذا.

 

المراجع

  • أحمد ارحيم هبو. تاريخ سورية القديم. تاريخ سوريا القديم.
  • آلفونسو آركي. حلب في عهد إبلا. الحوليات العربية السورية مجلد43.
  • محمود حمود. الديانة السورية القديمة.
  • يوسف كنجو ،مصطفى النجار. التنقيبات الأثرية في مدينة حلب القديمة.