رحى للمدن القديمة

حرفة الحدادة، كيف ارتبطت بالأسواق القديمة؟

حِرفةٌ تقليديّةٌ تُراثيَّةٌ واكبتْ الإنسانَ منذ القِدم وتنوعت صناعتُها وأدواتُها، وهي من الحِرفِ الأساسيَّة التي لا يستطيع أحدٌ الاستغناء عنها، فمنتجاتُها مختلفة، واستخداماتُها متنوعة، وتبقى الحِدادة صامدةً في وجه الحَداثة تصارع من أجل الاستمرار، والعاملون بحرفة الحدادة يَحْرصون دائماً على التميّز في صناعة الأدوات التقليديَّةِ من خلال استمرارهم بالحفاظ على الآلية القديمة في إعادة تشكيل مصنوعاتِهم الحِرفيَّة.

عندما لم يعد الحجرُ يُلبي احتياجات الإنسان، دفعته الحاجةُ إلى البحث عن المعادن فَوُلِدَتْ حِرفٌ عديدةٌ من المعادن ومنها حِرفةُ الحدادةِ، وأكثرُ الأدوات التي ظهرت قديماً في حِرفِ المعادن والتَّعدين منذ مئات السنين هي الأسلحة العسكرية (السهام والسيف، والرمح، والفأس، والترس، والخوذة، والدرع…….)، ويتميز عصر الحديد بأنّه حِقبةٌ مهمّةٌ من تاريخ الشرق القديم بتطور اقتصاديٍّ وتقنيٍّ مهمٍّ يتمثل باستخدام معدن الحديد في صناعةِ الأسلحةِ، والأدوات المختلفة منذ نهاية الألف الثاني ق.م.

حرفة الحدادة في سورية

الحِدادة هي أقدمُ حرفةٍ في مجموعة المعادن، والحدّاد يقوم عمله على معالجة الحديد (تشكيله) بوضعه في الكور(المجمّرة لإحماء المعادن)، والنفخ عليه في الكِير(منفاخ يدوي سابقاً وأصبح كهربائي فيما بعد) حتى إذا صار كالجمرِ، وأصبح جاهزاً للتصنيع معه، وصنعه كيف شاء وهذه الحِرفة منتشرة في سورية كثيراً.

الطرق على الحديد
                                                                            حرفة الحدادة

فقد عَرَفَتْ دمشقُ تطريق الحديد قبل الإسلام وما زالت حِرفةً متوارثة، وكانت دمشقُ مصدرَ تفاخرٍ بما يُصنع من السيوف المُحلّاة لِمَا امتازت به من الصَّفاء، وما كُتب عليها من آياتٍ وأشعار بماء الذهب، مثل الخناجرِ والرِّماحِ، فالامبراطور (ديوقلسيانوس) الروماني أنشأ معملاً للأسلحة ممّا يَدُلُّ على أن الحديدَ المستخرجَ آنذاك كان يفي بحاجة هذه الصناعات وقد عَرَفَ الصليبيون هذه الصناعاتِ ونسبوها إلى دمشقَ، كما كان العرب قد نقلوها إلى الأندلس فنُسِبَت إلى دمشق، وحِرفة الحِدادةِ مشهورةً جدأ في يبرود والقلمون وتغطي حاجات المنطقة.

ارتبطت الحِدادةُ بالعديد من الأسواق القديمة في سورية كسوقِ الحَدَّادين في حلب الذي يقع غربيَّ الجامع الكبير، والعاملون بحِدادة النَّصال في حلب؛ منهم من يعمل وقوفاً ومنهم من يعمل جلوساً، وتُعدُّ هذه الحالة استثنائية في حلبَ ولا تزال شائعةً بكَثرة بـ حمصَ في السوق المركزي لأشغال النَّصالِ والأدواتِ البسيطة كما عند الحَدَّادين المتجولين الغَجَر المستقرين جزئياً على أطراف البادية السورية.

وكان للحدّادين سوقٌ في مدينة السويداء ويُعرف اليوم بسوق الحَدَّادين، ولم يكن يُسمع فيه سوى أصوات الطرق على الحديد المحمَّرِ الخارج لِتوِّه من كُورِ النار وفي الخارج يتجمهر العديد من الفلاحين إما لانتهاء الحداد من تحديث أدواتهم الزراعية، أو انتظاراً لانتهاء الحدّاد من صُنع سِكة للعود(العود وهو المِحراثُ القديم، ويتكون من الكابوسة، الذكَر، القِطعة، الوصلة، الناطح، الطوق، البلعة، الثعلوبة، النير، الشَّرعة، المساس، وجميعها يتولى صناعتها النَّجار العربي عدا السكة والطوق ورأس العبوة يصنعها الحدّاد العربي).

مراحل تشكيل مصنوعات حرفة الحدادة

تمتلك حرفة الحدادة العديدَ من الخَطَوات لتشكيل المصنوعات النهائية من الحديد

فالبدايةُ تكون من الحديد الخام ووضعه في الكُورِ(المجمرة وتحتوي في داخلها الفحم الحجري)، ثم يُقصُّ بمِقصٍّ خاص بالحِرفي ليأخذ الشكل التقريبي للمنتج المطلوب، ومن ثَمَّ يُعاد إحماء قطعة الحديد ثم يُطرق عليها حدّادين بالتناوب وهذه العملية تُخوّل تحويل صفيحة سماكتها موحدةٌ إلى صفيحة تزداد رِقتها تدريجياً للوصول إلى السماكة المطلوبة ويتمُّ الطَرقُ على السِّندان، وفي محلات الحدادة بحلبَ يكونُ عادةً السِّندان بمكان قريب من المَدخِل حيث يُوفّر ضوء النهار رؤيةً جيدة أثناء العمل ومجمرة الحدادة غالباً ما تكون في عُمق المحل بعيداً عن المدخِل، والسببُ لذلك تحديدُ درجةِ لونِ المعدن أثناء إحمائه الذي يتراوح بين الأحمر والبرتقالي، أو الأبيض تبعاً لدرجات الحرارة المختلفة المناسبة للعمل، وتتأجَّجُ النارُ في المَجْمَرةِ بواسطة المنفاخ، ومن ثَمّ مرحلةُ الترقيق وهو الأمر الذي يتطلب أي تعديل وتتالى هذه المرحلة مع إدخال القطعة مرات إلى الكور(المَجْمَرة) لتأخذ شكلَها النهائيِّ، ومن ثَمَّ مرحلة السِّقاية؛ وهي إضفاء صفاتٍ خاصة على الحديد وتقسيته وتصليده عن طريق تحويل في بنيته الداخلية عبر عملية التبريد السريع بوضعه في حوضِ ماءٍ مخصّصٍ لهذه العملية.

 

منتجات حرفة الحدادة  

تتعدّدُ منتجات الحدادة التي يتمُّ استخدامها في مجالاتٍ عِدة ومنها:

آلاتُ العربة، آلات الحَّرث، وغيرها كالمجارفِ والسككِ والمرورِ للحرث، ومنهم من يصنع الجنازيرَ للخيلِ، وغير ذلك من السكك، ومنهم من يصنع الكوانين كالصوبات والطبابيخ وغيرها الكثير، ومنهم الغالاتية، ففي دمشقَ يُعرفُ مَن يصنع المفاتيحَ المسمَّاةَ بـ السواقط بالغالاتي (يقوم أيضاً بتصنيع الأقفال والمبارد وكمّاشاتِ الحديد فهي قريبة من حِرفة الحدادة).

وفي سوق الحدّادين بحلبَ كان يصنع المساميرَ البلديةَ، والسلاسلَ لقيد الدواب والمُفَصَّلات، وعلى هذا النَّحْوِ يكون منتجات السوق.

وينتج الحدّادُ أيضاً المناجلَ المستقيمة، ونصال قص الورق وسواطير اللحم، والسكاكين، وفرامات اللحم الكبيرة و خطافات تعليق اللحوم ومشاحذ النّصال(عدة القصّابة،أدوات الجزّارين)…الخ.

وفي أغلبِ مَحِلَّات الحِدادة كانت تتألفُ من أبوابَ تُفتَح إلى الخارج، وتستخدم هذه الواجهة المفتوحة لعرض المنتجات المُصنّعة، إضافةً إلى الرُّفوفِ المُتَوضِّعةِ داخل المحل المثبتة على الجدران، والتي تستخدم غالباً لعرضِ بعضِ الأدواتِ المُنجَزة.

حدادة
                                       منتجات حرفة الحدادة
حرفة الحدادة
                                             منتجات حرفة الحدادة

الأدوات والمواد اللازمة لحرفة الحدادة

  • المِطرقة، المِضرب.
  • الكور (المجمرة لإحماء المعادن)
  • الكير (المنفاخ)
  • فحم حجري (الكوك) أو قطع صغيرة من الخشب.
  • السندان وهو قطعة معدن شبه مكعبة رباعية الزوايا، ويتم طرق الحديد عليها
حرفة الحدادة
                                                                السندان والمطرقة
حرفة الحدادة
                                         الكور(المجمرة) من تصوير شركة رحى للمدن القديمة

 

 

 

 

 

 

منفاخ
                                الكير(المنفاخ)
فحم أسود
                                                                 فحم الكوك الحجري

 

 

                                                                                                                 من الأمثال المرتبطة بحرفة الحدادة

  • الحدّاد إذا ما صابك نارو بصيبك أشرارو.
  • شو بدّا  تاكل الفارة من دكان الحدّاد؟
  • الحديدة حامية.
  • متل الحدّاد بلا فحم.
  • مو كل من شحوَر وجهو صار حدّاد.

من الحكايا المرتبطة بحرفة الحدادة

نجدُ حكايا عديدة تُبرزُ الحِرفَ ومكانتها الاجتماعية، ومن هذه الحكايات حكاية (الحدّاد والمزارع).

لعلَّ الموقفَ الواضحَ هو ما تُعبّرُ عنه حكاية توضح مهارة الحِرفة اليدوية على العمل المهني العادي، وهي عن فلاح قَدِمَ من الريف إلى حدّاد يطلب حدوةً لحصانه، فأعطاه الحدّاد حدوة، فأمسكها الفلاحُ بين يديه وثناها، وطلب أفضلَ منها، فأعطاه حَدوةً ثانية وثالثة، وكان الفلاحُ في كل مرة يَثْنِي الحَدوة ببساطةٍ، وأخيراً قال للحداد: أنا مضطر لشراءِ حدوةٍ من صنعك مع أنّ ما تصنعه ليس جيداً، ولكن يجب أن تبيعني الحَدْوة بسعرٍ أقل، ثمَّ ناوله ليرةً فضيةً، فتناولها الحدّادُ بين إصبعيه وفركها، فمحا ما عليها من نقش، وردّها إليه، وهو يقول: قطعةُ نقدك ممسوحةً، ولا أقبل بها، فناوله قِطعةً أُخرى ففعل بها مثل ما فعل بالأولى، وهكذا فعل بعدة قطع أخرى، فقال له الفلاح: “لا بأس سأعطيك كل ما تطلب، ولكن لا تمسح بعد الآن نقودي”.

وتدلُّ الحكاية بشكل واضح على الجدال بين الفلاح والحدَّاد؛ أي بين صاحب الحِرفةِ اليدويةِ، وصاحبِ المهنة، وتُؤكدُ القِصةُ حاجةَ النَّاس بعضَهُم لبعضِهم الآخر والتكاملُ فيما بينهم.

وهكذا نجدُ أنّ حِرفةَ الحِدادة تُعد من الحِرفِ المُتعِبَة وتحتاج إلى الصبر، إذ أن صاحب الحِرفةِ هو في مواجهة مستمرةٍ مع الحديد والنّارِ، ولكن يبقى دائماً شغوفاً في عمله ممارساً لحرفته بكل حُبّ.

وفي هذا الفيديو نجد الحرفي  محمد قجة وهو يتحدث عن تاريخ عائلته مع حرفة الحدادة وسبب اختياره لهذه الحرفة، وعن المنتجات التي يقوم بتصنيعها كالأدوات الزراعية التي تكون غالباً كل ما يحتاجه الفلاح، وتأثير الحداثة على مهنته، ويعطي اقتراحات للمحافظة على المهن التراثية.

 

المراجع العربية:

  • الأسدي،خير الدين:موسوعة حلب المقارنة،م4، منشورات جامعة حلب،1984.
  • حنا،عبد الله:صور من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين،المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  • دياب،أحمد.وعلا التونسي،وجمال تموم:آثار بلاد الشام القديمة،منشورات جامعة دمشق،2014.
  • العاصي،عربي.ولميا جنيدي:حرف التراث من دمشق الاساس مدخل إلى دراسة تاريخ الحرفة، المطبعة التعاونية،1985.
  • القاسمي، محمد سعيد. وجمال الدين القاسمي، وخليل العظم:قاموس الصناعات الشامية، تحقيق:ظافر القاسمي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1988.
  • قنطار،هايل:الصناعات التقليدية في محافظة السويداء،مجلة التراث الشعبي، 21،مطبعة الهيئة العامة السورية للكتاب،دمشق، 2021.
  • قوشاقجي،يوسف:الأمثال الشعبية الحلبية وأمثال ماردين،ج1، مطبعة الإحسان، 1984، ط2.
  • كيال، منير:فنون وصناعات دمشقية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي مديرية التأليف والترجمة.
  • محبّك،أحمد زياد:الحرف اليدوية في الحكايا الشعبية، مجلة العاديات،2012.

المراجع المعربة:

  • ساز،محب شانه.إيللا داردايون، جان-كلود دافيد:حِرَف المعادن في حلب الإرث والخَلَف، تر:محب شانه ساز، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة presses de l̛̛̛̛̛ifpo beyrouth،2018.