رحى للمدن القديمة

الكتاتيب ودورُها الحضاريُّ والتعليميُّ

اهتمتِ العربُ منذ القديمِ بتعليم أبنائِهم القراءةَ والكتابةَ، وأتى الإسلامُ وكرّس هذا الأمرَ ورفع من قيمةِ العِلم، وحثّ أتباعه على التعلمِ والتَّفقُّهِ في الدِّين. وحِرصاً على قداسةِ المسجدِ من وجود صغارٍ بين صفوف المتعلمين في المساجد منعاً من إحداثِ الصَخَب والضجيج، وغيرِ ذلك داخلَ المسجد، ظهرتِ الحاجةُ لنقل هؤلاء الصغارِ إلى أماكنَ خاصةٍ مُعدَّةٍ لذلك سُمِّيت بالكتاتيب، وبهذا فُصِّلت عمليةُ التعليم عن المسجد، وبقي المسجدُ مقراً للعبادات وحلقات العلم لليافعين.

 

الكتاتيب في مصر
الكتاتيب في مصر عام 1906م

نشأة وتطور الكتاتيب

الكُتّابُ وهو المكانُ الذي يجري فيه الكتابة والتعلم، ويجمع كتاتيبَ أو مَكاتِبَ، وهو مشتقٌ من التَّكَتُّبِ وتعلُّم الكتابة، ذكره ابنُ منظورٍ في لسان العرب بأنّ (الكُتّاب موضِع الكتاب) أي الكتابة.

وهناك نوعان للكتاتيبِ التي انتشرت في العصرِ الإسلاميِّ المُبكِّر، أولهما الكُتّابُ ويتعلم فيه الصغارُ مبادئَ الخطِّ والإملاء والحسابِ والكتابة، وثانيهما الكتّابُ الذي يتمُّ فيه تعلم القرآنِ والأحاديثِ النَّبويَّةِ، ومبادئِ الدِّينِ الحنيفِ، وهذا يُفسر بأنَّ النوعَ الثاني من الكتاتيب هي للكبار.

بدأت تتزايدُ أعدادُ الكتاتيبِ اتساع رُقعَةِ الفُتوحات الإسلاميَّةِ، وكان للفاتحين دورٌ مهمٌّ في إيجاد الكتاتيب في البلاد التي فتحها المسلمون ليعلِّموا أولادَ المسلمين الجُددَ القرآنَ الكريمَ، ومبادئَ دينِهم. لذلك كثُرت الكتاتيب في دمشقَ وحلبَ والبصرةِ والكوفةِ… وغيرها.

ومنذ القرنِ الثاني للهجرة أصبح عددُ الكتاتيبِ في تزايدٍ حتى أصبح لكلِّ قريةٍ كتُّابٌ، بل ربَّما وجد أكثر من كتّاب، وكثُر عدد المعلمين، حتى أنّ ابنَ حوقل عدّ أكثرَ من ثلاثمائةِ معلمٍ كتّاب في مدينة بَلرمُو بصقلية، وقد صاحب ذلك تطوراً في فَناءِ وبنية الكُتّاب، فلم يعد بناءً متواضعاً يضم عشرات الأطفال، وإنما اتَّسع وضمَّ عدداً كبيراً من التلاميذ والمدرسين حتى أصبح أشبهَ بالمدرسة.

وذكر ياقوتُ الحمويِّ بأنّ كتّابَ أبي القاسمِ البَلْخيِّ كان يضمُّ ثلاثةَ آلافِ طفلِ حتى أنَّ البَلْخيَّ كان يحتاج إلى ركوبِ حِمار حتى يتمكن من المرورِ على جميعِ التَّلاميذِ والإشرافِ عليهم، ومن جهة أُرى اهتمَّ الخلفاء في العهدِ العباسيِّ بأمرِ الكتاتيب وذلك لدعم الجهاز الإداري للدولة.

هل كانت الكتاتيب حكراً على الصِّبْيَة دون الفتيات؟

ترافقَ الاهتمامُ بتعليم الصبيةِ وتعليم البناتِ، ولكن اشتُرِط بتعليمهنّ بفصلهنّ عن الصِّبية خشيةَ الفساد.

كتاتيب مدينة اللاذقية في ثلاثينات القرن العشرين ميلادي
كتاتيب مدينة اللاذقية في ثلاثينات القرن العشرين ميلادي

تطور الكتاتيب وتحولها إلى مدارس تعليميَّةٍ

تحوّلتِ الكتاتيب إلى مدارسَ لتعليمِ الدين الإسلاميِّ، ويُشاعُ بأنَّ أولَ ظهورٍ للمدارس كان في منتصفِ القرنِ الخامسِ الهجريِّ حيث أسَّس نظامَ الملك، الملكُ السلجوقيُ – المدرسةَ النظاميَّةَ في بغدادَ، إلا ّ أنَّ هناك دراساتٌ حديثةٌ تُثبت بأنَّ المدارسَ عُرِفت قبلَ ذلك بزمن، حيث يذكرُ المستشرق الألمانيُّ Ferdinand Wüstenfeld عِدةَ شواهدَ منها:

شيّد الإمامُ أبو حاتمٍ البُستيِّ المحدِّثِ المشهورِ (345هـ) مدرسةً (داراً) في بلدةِ بست، وأقام الإمامُ النينسابوريُّ (349هـ) من الشافعيَّة مدرسةً له بنيسابورَ… وغيرِ ذلك.

وهذه الشواهدُ تدلُّ على أن ظهورَ المدرسةِ بمعناها الاصطلاحيِّ كان في حوالِي منتصف القرنِ الرابعِ الهجريِّ.

رسم يحيى بن محمود الواسطي تعود إلى القرن 13م
رسم يحيى بن محمود الواسطي تعود إلى القرن 13م

بماذا تميزت المدرسة عن المسجد

تميزت المدرسةُ عنِ المسجدِ ببعضِ الميِّزات ولعلّ أهمَّها الإيوانُ أو قاعةُ المحاضراتِ والمساكنُ المعّدَةُ لسكن الطلبةِ والمدرِّسين وكانتْ مجهَّزة بالأثاث والأدوات الضرورية للمعيشة كالأواني والموائد والمصابيحِ وغيرِها.

والمدرسون المعنيون من قِبل أصحابِ المدرسةِ أو وُلَاةِ الأمر لتعليم الطلابِ خِلافاً للمسجد الذي كان المدرسون يقومون بواجبهم التدريسيِّ تطوعاً وبدافعٍ ذاتيٍّ من أنفسهم.

وفي دمشقَ وحلبَ العديدُ من الأمثلةِ عن تلك المدارسِ، كالمدرسةِ الظاهريَّةِ والعادليَّةِ بدمشقَ وفي حلبَ، ومدرسةِ الفِردَوس الظاهريَّةِ البرّية والكماليَّةَ والشاذبخيتيَّةِ.. وغيرِها.

وانتشرت في الجوامعِ غُرَفٌ للمقيمين من الطلابِ والمدرسين، وأصبحتْ هذه الغُرفُ جزءاً من العمارة للمدارس لا سيّما في العهدِ الأيوبيِّ.

مدرسة الفردوس
مدرسة الفردوس في حلب

أنواع المدارس

تنوعتِ المدارسُ حَسْبَ المَنْهَجِ الذي يُدرَّس، فهناك مدارسُ أوليَّةٌ ومدارسُ متوسطةٌ ومدارسُ ثانويةٌ أو عاليَةٌ، أمّا المدارسُ فقد كانت تُصنَّف وَفْقاً للتخصصات العلميَّةِ فكانت هناك مدارسٌ فقهيَّةٌ ومدارسُ قرآنيَّةٌ ومدارسُ للحديثِ الشريفِ ومدارسُ طبيَّةٌ.

وقد خرّجت هذه المدارسُ عَبْر تاريخِها العديدَ من الكُتَّاب والمؤرخين، فقد كان لهذه المنابرِ دورٌ معرفيٌّ خَلّاقٌ وبِناءُ المستقبلِ للأجيال المتعاقِبَةِ.

 

إعداد: أ. أحمد الغريب

المرجع: مكتبة رحى للمدن القديمة