رحى للمدن القديمة

القش مُنتج زراعي أم صناعي؟

صناعةُ الأدواتِ من القش هي حِرفة متوارثة وتختلف عن غيرها من الحِرف بأنها غيرُ محصورةٍ بعائلات، أو أشخاص، أو طبقات اجتماعية معينة، لها مكانة كبيرة لدى النّساء وخاصةً ممّن امتهن هذه الحِرفةَ.

استعمل الإنسانُ القش منذ القِدمِ للاستفادة منه، وتدل اللُّقى الأثرية على استعماله هو وأنواعٌ أخرى من الألياف النباتية المتوفرة في بيئته لصنعِ الأدوات اللازمة له، فالحاجة دفعته لابتكار السلال والأطباق، وكان استعمال الأدواتِ القشيَّة من العناصر الأساسيّةِ في الحياة اليومية.

مراحل حصاد القش ليصبح جاهزاً للاستخدام.

المرحلة الأولى (الحصاد).

تبدأ المراحلُ الأولى للحصادِ بالاجتماع صيفاً عند بَيَادرِ القمح، وتقوم النِّساء والفتيات بجمعه وترتيبه، وبعدها يتمُّ فصلُ سنابل القمحِ عن الجزء المناسب الذي يُستخدمُ في صناعات القشِّ (الجزءُ المناسب هو من أسفل السُّنبلة إلى العُقدة الأولى في الساق وعادةً ما يكونُ طولُ هذا الجزء نحو 40سم).

وتستمرُّ بهذه العملية حتى تَجمعنَ ما يكفي حاجتُهُنَّ لما ترغبنَ في صناعته، ويتم تجميعه على شكلِ حِزمٍ، وتعليقه إلى حين بداية فصل الشتاء للعمل به وذلك بسبب الوقت الطويل في الشِّتاء، وقِلةِ الأعمال الزراعيَّةِ.

تحتفظُ المرأةُ أيضاً بكميةٍ من القشِّ الخالي من السَّنابل لاستخدامه في حشوة الوسائد، والرجلُ العاملُ بهذه المهنة يسمى الحشَّا ومهمته حشو الوسائد بالقشِّ.

لا يتمُّ الاعتماد فقط على قشِّ القمح فقط، بل على أنواعٍ أخرى أيضاً، وتُستخدمُ النَّباتاتُ البريةُ أيضاً كـ(نبات السّعد) الذي ينمو على المستنقعات في مناطقِ جبلِ الشِّيخ.

المرحلة الثانية(تحضيره للصناعة).

تبدأ المرحلة الثانية بإعداد القشِّ من أجل تحضيره للصناعة، فتقوم النساء بتنظيفه وتلِّيينه بنقعه بالماء الساخنِ لمُدةٍ كافية مع الصِّباغ والملحِ (لتثبيتِ اللون)، وبعدها يُجففُّ تحت أشعة الشمسِ، لِيُصبحَ جاهزاً للاستخدام.

المواد المُصنَّعةُ من القش والمعدات اللَّازمة لصناعتِه.

أهالي القرى يحتاجون إلى أطباقٍ وأوانٍ مختلفة الأشكال لنقل مستلزمات عملهم وطعامهم إلى الحقول، ومنها إلى المنازل، وسكَّانها يمتهنون هذه الحِرفة القديمة، وهي من الحِرف اليدوية التراثية التقليدية العريقة التي تتوارثها الأجيال المتعاقبة في الريفِ، والكثير من القرى السورية.

عادةً  تجتمع النِّساء بشكلِ جماعاتٍ في الغالبِ، وتُحضِّر كل منها القشَّ والمعدَّات اللازمة ويجلسنَ لممارسةِ صناعتهنّ ويتبادلنَ الحديث في أمورِ القريةِ والناس.

المعدَّاتُ اللازمةُ لِصناعةِ الموادِ من القشِّ.

  • المِقصُّ: لتشذيب رؤوس القشِّ.
  • المخلّة: تُشبه المسمارَ ولكنها أكبرُ حجماً منه، وتستعمل لتثبيته وربطه مع بعضه .
  • المِسلّة: وهي إِبْرةٌ كبيرةُ الحجم.ِ
  • القطفةُ: وهي سكين كبيرة وحادة.
  • المَخرزُ: ويعد الأداة الأساسية في التصنيع، وهي أداة حادة تستعمل في ثقب الأعواد وثنْيها.

 أطباق القش

الأدوات من القش
صناعة الأطباق

بعد تجميعِ القشِّ من الحقول وتلوينه، وعند البدء في العمل به يُنقع بالماءِ لمدةٍ قصيرةٍ من الزمن حتى يُساعد على العمل به، حيث  يُضفَّرُ  ويُلفُّ دائرياً  فيتمُّ الحصول على مركز الطَبَقِ، ويكون هو أساس متانته وعند الانتهاء يتم تثبيته بشكلٍ مُحكم، وفي دمشقَ يُسمَّى العامل بالمهنةِ (نطّاع)، ومن العاداتِ الاجتماعية في القرى عند الخُطوبة يضعون أهل العريس في حسبانهم أن تكونَ الفتاةُ ماهرةً في صُنعِ الأطباق.

برعتْ نساءُ مدينةِ السويداءِ في صناعة أطباقٍ وأوانٍ متعددةِ الأحجام، وهي من الصِّناعات المنتشرةِ كثيراً في جبل الدرُوز، واشتهرت نساءُ قرية (بسورم) إحدى قرى محافظةِ طرطوسَ بصناعتها، ولكن تراجعت هذه الحِرفة حتى لا يُذكر اليوم في القرية كلِّها سوى عدد قليل ممن يصنعن أطباق القش، والكثير من القرى في منطقة مصياف يشتهر سكانها بهذه الحرفة كقرية الحليونة في منطقة مصياف وأيضاً قرى ريف دمشق وجبل الشيخ وريف حوران.

العادات المرافقة عند صناعةِ الأطباقِ.

من العاداتِ عند النِّساء وهنّ يصنعنَ الأطباقَ في دمشقَ يقومون بالغناء قائلين:

غنّوا يا بنات غنّوا بشغل القشِّ وتأنّوا

وحطوا طبق على طبق وخلوا العالم يتهنوا

غنوا غنوا يا بنات انقعوا بالمي القشات

هاتوا طبق الزبيبات واحكوا للعالم عنو

غنوا على أكل التين والطبق بدوا إيدين

يلله ارقصوا تنين تنين والصبك ضحك سنو

 سلال القش.

سلال القش
السلال

صناعةُ السلالِ لها أهميةٌ كبيرة، فهي أوعيةٌ للنقلِ بأحجام مختلفة وتستعمل لأغراض شتى، وتُصنع السلال من القشِّ السَّميك.

 

تتنوع أحجامُها ويتَّسع الحجم الكبير منها ما يقارب العشرين كيلو غراماً، والصغير كيلو غرامٍ واحدٍ، ولها أشكال مختلفة منها المتطاول العموديُّ، والدائريُّ الملتف.ُّ

والسلالُ المنشَّرة في حلبَ ودمشقَ، غالباً ما تكونُ مصنوعةً من القصب فهي الأكثر انتشاراً.

العاداتُ المرافقةُ عند صناعةِ السَّلةِ.

من العاداتِ أن ترددَ الفتياتُ الأغنيةَ في مناطقَ (حوران والسويداء والزبداني) قائلين:

سبعا بناتك يا خالي سبعتهن شغلوا بالي

أول واحدة منهن بتاكل سل بتشكل فل

وتاني وحدة منهن معها سلة فيها الغَلة

ومن الأمثالِ الشَّعبيةِ المرتبطةِ بالسَّلةِ (عديم وقع بسلة تين).

حصيرة القش.

تصنيع الحصيرة
تصنيع الحصيرة

هي التي تُفرشُ على الأرض، والعامل في هذه المهنة يسمى (حصريُّ).

للحصيرةِ أنواعٌ في (بلودان وحوران والغوطة) التي اشتهرت في صناعة الحصر.

ولها مناسجٌ يدويَّةٌ خاصةٌ، وتُمدُّ بشكل موازٍ للأرض، سداها من خيوط قشر القِنِّب ولحمتها من القشِّ الطَّويل.

طريقةُ صُنعها يكونُ بمدِّ كلِّ خيطٍ بخيطه على التَّساوي من خَشبة إلى أخرى، وتدخل تلك الخيوط بأثقاب خشبية كمشط الحياكة وتشد بقوة، ويأتي الحرفيون بالقش ويدخلونه بين تلك الخيوط بالثني المحكم على مقدار عرض الحصيرة وعند الإنتهاء يتم قص الخيوط والإحكام بربطها ولفها بعد أن أصبحت جاهزة.

وتصبحُ الحصيرةُ لوحةً فنيةً ملوَّنةً، ومع مرور الزمن والتّطورِ أُدخلتِ الأليافُ البلاستيكيةُ على تصنيع الحُصرِ فأصبحتْ تنافسُ الحُصرَ المصنعةَ بالقشِّ.

كراسي القش

مهنةُ تقشيشُ الكراسي، هي من المِهن التي كانت أكثرَ انتشاراً، وتقشيش الكرسي هي تغطيةُ المقعد مكانَ الجلوس بالقشِّ، وكانتْ هذه المهنةُ رائجةً في دمشقَ منذ مئاتِ السنين، وفي سبعينيات القرن العشرين بدأت هذه المِهنةُ بالتراجع بسبب استبدالها بالكراسي البلاستيك.

تصنيع الكرسي
صناعة الكرسي

كانت الكراسي عند تصنيعها تمرُّ بمرحلتين لوصولها لشكلِها النهائيِّ.

المرحلة الأولى.

صناعةُ هيكلِ الكرسيِّ الخشبيِّ عند نجارين مختصين.

المرحلة الثانية.

بعد صُنع هيكلِ الكرسيِّ يتمُّ الانتقال إلى المرحلة الثانيةِ، وهي تقشيشُ الكرسي، وكانت المحلَّات المختصةُ بذلك تقع على جانبيِّ الشارع الرئيسي بدمشق بحي الميدان في المنطقة الممتدة ما بين باب المُصلَّى والسُّويقة، ويتمُّ ذلك بمراحل عدةً، حيث يُبللُ القشُّ بالماء ليصبح طريًّا ثم يُمشّط بأداةٍ خاصةٍ، ويُلفُّ ويُجدل ليصبحَ على شكل حبْل طويل، وبعد ذلك يقوم القشَّاشُ بتركيبه على الكُرسي بطريقة فنيةٍ، ويظهر التقشيشُ على شكل مُثلثات قواعدها أضلاعُ مقعد الكرسي المربع ورؤوسُها تلتقي في وسط المَقعَدِ.

المقشة.

المقشة
المقشة

تُستخدم في التَّنظيف (تكنيس)، ويُسمَّى من يقوم بصنعها (المقشَّاتي)، وجاءت هذه التَّسميةُ من المادة المصنَّعةِ بها وهي القشُّ، كان يباع في سوق متخصصةٍ بذلك في مَحِلَّةِ القُرشيِّ بحي الميدان في دمشق على شكل حِزم كبيرة، وهنالك العديد من العائلات تكنى ب(مقشاتي).

تُصنع بترطيبِ القَشِّ بالماء ليصبحَ طرياً وتُستخدمُ آلةٌ تُسمَّى (المِقعَدةَ)، وهي عبارةٌ عن مقعد بلا قوائم يجلس عليها المَقشَّاتي.

وبعد تجهيز الحِزمةِ المناسبةِ من القشِّ يشدها بحبل موصول بطرفي المِقعَدة إلى قدميه ويحزِمها بخيط القِنِّب، وتصبح المَقشَّةُ جاهزة.ً

مع دخولِ فترة السبعينيات من القرن العشرين بدأت هذه المِكنَسةُ بالاندثارِ، وذلك بسبب ظهور المكانِس البلاستيكيةِ، وندرةُ وجود القشِّ، ويعود هذا لأسباب زراعيّة واقتصاديّة.

 

وهكذا نلاحظُ مؤخراً تراجعَ صناعةِ الموادِ المصنعةِ من القشِّ، وذلك بسبب انحسار زراعةِ القمحِ التي تُعدُّ أساس هذه الحِرفةُ، ودخول الحداثةِ على تقنيات الحصاد، ووجود الأواني البديلةِ الحديثةِ.

 

المراجع:

  • العاصي عربي ولميا جنيدي.حرف التراث من دمشق الأساس مدخل إلى دراسة تاريخ الحرفة.
  • أبو خضره، محمد رجب. من حبة القمح إلى رغيف الخبز،2015م.
  • عبد الحق،سليم عادل.مختصر بحث( المعرض السوري للفن والفولكور والصناعات اليدوية الدقيقة)،مجلة الحوليات الأثرية السورية، م7، 1957م.
  • بوبس،أحمد.مهن يدوية منقرضة،مجلة التراث الشعبي، وزارة الثقافة،سورية، العدد20، 2020م.
  • حسين،ناهد محمود.صناعة القش حرفة النساء السوريات قديماً،مجلة التراث الشعبي،وزارة الثقافة،سورية،العدد20 ،2020م.