رحى للمدن القديمة

لماذا أتت العمارة الدينية المسيحية المبكرة من بلاد الشام ؟

قبل أن تأخذ العمارة المسيحية المبكرة طابعها الخاص لاقى الدين المسيحي في بدايته كثائر الأديان السماوية مقاومة عنيفة واضطهاد كبير من قِبل أعداء الدين، ولم يستطيع المسيحيين الأوائل إقامة أماكن جميلة وفاخرة لممارسة عبادتهم حتى عهد الامبراطور قسطنطين الكبير الذي أصدر “مرسوم ميلانو” عام 313م، والذي سمح بحرية العبادة للمسيحيين.

العمارة المسيحية المبكرة والدياميس

كان المسيحيين قبل ذلك يمارسون عبادتهم في أماكن سرية بعيداً عن اضطهاد الرومان لهم تعرف بالدياميس، وهي عبارة عن ممرات ودهاليز محفورة تحت الأرض يوجد على جانبيها حفر مستطيلة لوضع التوابيت وينزل إليها بأدراج، وتكون مظلمة الا في بعض الأماكن.

الدياميس
الدياميس

عندما انتشرت الديانة المسيحية في عهد الامبراطور قسطنطين ظهرت بين القرنين (4-7م) كنائس ذات بهو واحد وثلاثة أبهاء وبازليكات بـ 5-7 مماش يفصل بينها أعمدة أو ركائز، وهناك كنائس تأخذ شكل الحرف T أو الصليب.

وكان تصميم العمارة المسيحية المبكرة الأولى مقتبساً من البازليكا الرومانية وليس من المعابد الوثنية، ويعود ذلك إلى سببين رئيسيين، الأول نفسي يتعلق برغبة المسيحيين في عدم استخدام شكل معماري مشابه للمعابد الوثنية، والسبب الثاني هو عدم قدرة الاشكال المعمارية للمعابد الوثنية على تحقيق متطلبات العبادة المسيحية وتجمع أعداد كبيرة واحتياج أماكن متعددة لأغراض مختلفة.

البازليك والعمارة المسيحية المبكرة

البازيليكا معناها (رواق ملكي معمد أو قاعة الملك للمحاكمة)، وقد ظهرت البازليكات إلى جانب الساحة العامة (الفوروم) في المدن الهلنستية والرومانية منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وكانت أهم الأبنية في المدن بعد المعابد.

كنائس البازليك
كنائس البازليك

تأخذ كنائس البازليكا في شكلها المعماري مستطيلاً مقسم إلى ثلاثة أجزاء وهي: المجاز المركزي الذي يتوسط المبني ويكون سقفه أكثر ارتفاعاً، ويحيط به جناحين على جانبيه تفصل بينهما الأعمدة، ويكون لها حنية شرقية وبعض البازليكات لها حنيتين شرقية وغربية، بالإضافة إلى أبواب بعضها يفتح على ساحة الميدان العام والأخر يطل على شارع رئيسي بالمدينة، وكانت تسقف بسقف نصف أسطواني أو جملوني.

تبدل جهة الهيكل في العمارة المسيحية المبكرة

وقد تغيير مكان الهيكل في الكنائس في بدايات العمارة المسيحية، ففي البداية تم وضع الهيكل في الجهة المعاكسة لمدينة القدس (الغرب)، وذلك ليقابل الهيكل بفتحته اتجاه مدينة القدس، وليكون اتجاه الواعظ نحو القدس، وبالتالي كان مدخل الكنيسة بالاتجاه المعاكس.

ثم تم وضع الهيكل في جهة مدينة القدس (الشرق)، ليكون اتجاه المصلين نحو مدينة القدس، وفي فترة لاحقة اتفق المسيحيين على وضع الهيكل في الناحية الشرقية من الكنيسة بغض النظر عن جهة القدس، ويكون المدخل في الجهة الغربية.

سورية والكنائس المبكرة

كانت العمارة المسيحية في سورية موضع اهتمام كبير، وكان لها طابعها المتميز الذي أمد الفن المسيحي في الغرب بكثير من العناصر الأساسية، وكان من الطبيعي أن ينتشر بناء الكنائس في سورية في وقت مبكر، لأنه منها انطلق الدين المسيحي وفيها شيدت أقدم وأقدس كنائسه.

ففي شمال أنطاكيا وشمالي حلب، كانت الكنائس عبارة عن بازليك مستطيلة مغطاة بالخشب، وفي الصدر المذبح يأخذ شكل ايوان بين غرفتين مربعتين، واحدة للأمتعة المقدسة، والثانية مصلى للمضحين، وفي بعض الكنائس زودت الواجهة الغربية ببرجين مربعين متصلين برواق، كما هو الامر في بازليكات فاليرتان وسرجيللا

العمارة المسيحية المبكرة
كنيسة قلب لوزة

أقدم الكنائس المسيحية في العالم

تعد كنيسة قلب لوزة في الشمال السوري  من أولى الكنائس التي نجد الجناح الرئيسي فيها محمولاً على دعائم متينة ترتكز عليها الاقواس، بدلاً من الأعمدة.

العمارة المسيحية المبكرة
كنيسة قلب لوزة

ومن الكنائس المهمة في الشمال السوري كنيسة القديس سمعان العمودي، فبعد وفاة القديس سمعان عام 459م، شُيدت كنيسة ضخمة حول عموده تأخذ شكل صليب، وقد صمم القسم المركزي على شكل مثمن، وليس من المعروف ان كان هذا القسم مسقوف أو لا، وقد افترض الباحث جورج شالنكو بعد دراسات مطولة للكنيسة أن هذا القسم كان مغطى بقبة خشبية، أما بالنسبة للأضلاع الأربعة، فيتألف كل ضلع من بازليكا ثلاثية الأروقة.

العمارة المسيحية المبكرة
كنيسة القديس سمعان العامودي

وتعد منطقة المدن الميتة أو المنسية في الشمال السوري من أغنى المناطق بالكنائس والابنية الأخرى كالاديرة والمعموديات.

وفي الجنوب السوري حل الحجر البازلتي مكان التغطية الخشبية، وقسمت البازليك وهي ذات جناح وحيد بأقواس متعارضة، ككنيسة جوليانوس، وهي أقدم كنيسة في سورية في منطقة أم الجمال ويعود تاريخ بنائها إلى عام 344م.

وفي بصرى نرى الكاتدرائية قد بنيت وفق مخطط مركزي دائري أو مضلع منذ عام 512م، مثل كنيسة مارجرجس في ازرع 515م وكنيسة يوحنا المعمدان في جرش 513م، أما كنيسة الأنبياء في جرش 474م، فقد بنيت وفق المخطط المصلب ككنيسة مار الياس في ازرع.

كنسية القيامة..أهم كنائس الشرق

ومن أهم كنائس الشرق، كنسية القيامة في فلسطين، وقد بنيت فوق المكان الذي يعتقد بأنه دفن فيه السيد المسيح، ويعود تاريخ بنائها لعهد الامبراطور قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، وهي تتألف من قسمين، الأول صحن مكشوف حوله رواق، والقسم الثاني مقسم إلى ثلاثة أروقة إضافة إلى قبة ضخمة في الهيكل المقدس، تعرضت الكنيسة للدمار والنهب من قبل الفرس، وذلك قبل الفتح العربي الإسلامي، واعيد بنائها في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ومازالت قائمة إلى اليوم.

العمارة المسيحية المبكرة
كنيسة القيامة

ومن خلال دراسة خصائص الكنائس السورية القديمة نلاحظ اختلافاً كبيراً من حيث التصميم بينها وبين الكنائس الأخرى المعاصرة لها في العالم، مما يؤكد وجود مدرسة معمارية سورية مستقلة، لها معارفها وقواعدها التي انتقلت واثرت في العمارة الغربية في عصر العمارة الرومانسيك والقوطية وعصر النهضة.

 

المرجع: مكتبة رحى للمدن القديمة