رحى للمدن القديمة

الزجاج المنفوخ في أرمناز، هل يوجد طرائق متعددة لنفخ الزجاج؟

تشتهر  أرمناز بالعديد من الصِّناعات التقليدية، وأبرز ما اشتهرت به صناعة الزجاج المنفوخ حيث  تُعدّ أرمناز  الموطن الأصلي لها، فتَميز الزُّجاج فيها بجماله ورقته ونقائه، ومن أرمناز كان يُصدّر إلى العديد من البلاد ليكون مصدرَ تفاخرٍ في قصور الحكام، وما زالت إلى اليوم صناعةٌ يتوارثها الأبناء من الآباء والأجداد.

اكتشاف الزجاج وفقاً لرأي المؤرخين الكلاسيكيين

ينسب بعضُ المؤرخين الكلاسيكيين، اكتشاف الزجاج إلى الفينيقيين كما ينسب الاكتشاف التلقائي إلى تُجار مادة النّطرون الذين نزلوا الشاطئ السوري قرب عكا، فأثناء قيامهم بما يلزم لإعداد طعامهم، لم يعثروا على أحجارٍ لاستخدامها كمساند للقدر فاضطروا إلى استخدام كتل النطرون لهذه الغاية، ولكن نترات البوتاس ما لبثت أن انصهرت بتأثير النَّار وامتزجت برمل الشاطئ مما أدى إلى ظهور سائل شفاف فكان ذلك بداية فجرِ اكتشاف الزُّجاج وصناعته.

قد يكون هذا الاكتشاف حقيقة أو أسطورة لكن الروايات التاريخية اتفقت عليه، حتى أنَّ شيوخ صنَّاعِ الزُّجاج في أرمناز ينسبونها إلى تجار جاؤوا إلى بلدتهم وهم يبرهنون على ذلك بوجودِ تُربةٍ رمليةٍ خاصَّةٍ بجوارهم في أرض الوطا (أي المنخفضة) وتكون التُّربة ناعمةً وقاسيةً جداً، ويوجد ذات نوع التربة في منطقتي يبرود وجيرود ويستخرجون منها الرمل  الناعم.

نفخ الزجاج
تزيين الزجاج المنفوخ

ازدهار صناعة الزجاج في سورية

ازدهرت صناعةُ الزُّجاجِ وتطورت في سورية، ومنها انتقلت إلى البُندقية ثُمَّ إلى العالم الغربي، وكان الزُّجاجُ الذي يُصنّع في سورية من أجمل الزجاج الذي يصنّع في أي بلد.

تاريخ ابتكار طريقة الزجاج المنفوخ 

تعددت وجهات النَّظر في ابتكار هذه الطريقة لكن يرى (موران جان) أن هذا الاختراع يعود إلى نهاية عهد (قواد اسكندر)، أو في بداية تأسيس الامبراطورية الرومانية دون أن يتمكن من تحديد ذلك بشكل دقيق، وهذا ما ذهب إليه العالمان (ميشيل فاندر هافن) و(ريمون شامبون) اللذان يحددان تاريخ ابتكار واستعمال الإسطوانة في نفخ الزُّجاجِ في منتصف القرن الأول قبل الميلاد أي في أواخر العصر الهلنستي وبداية العصر الروماني، وذلك بعدما تقدمت صناعة العجينة الزجاجية في سورية.

ساعدت طريقة نفخ الزُّجاج على تقدُّم هذه الصناعةِ، وأسهمت في ازدهارها، بل فتح هذا الاكتشاف عهداً جديداً في تاريخ تطوُّر صِناعةِ الزِّجاج القديم، وأتاح الفرصة لصنعِ روائعٍ جميلةٍ تُعدُّ في عصرنا الحاضر تُحفاً رائعةً تتهافت متاحف العالم على اقتنائها لتُزيَّن بها القاعات والأجنحة، وعُدَّ هذا الابتكار بمثابةِ نقطةِ تحوّل مهمّةٍ في تقدم هذه الصِّناعة.

يعتقد (موران جان) أنّ الفضل في ظهور هذا الاكتشاف يعود إلى صُنّاع الزُّجاج السوريين ويرى (فاندر هافن) و(شامبون) أن ذلك محتمل؛ إذ أنّهما يَعتبران سورية المركز الرئيس لِصناعة الزُّجاج في الإمبراطورية الرومانية من القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي

 

طريقة نفخ الزجاج

يوجد طريقتين للنفخ:

  • نفخ الكتلة الزجاجية في القالب

كان العمّال يستعملون القوالب الخشبية في طريقة نفخ الكتلة الزُّجاجية فيها، وذلك لإعطاء هذه الكتلة شكل القَالَب المنفوخ فيه، إذ كان يلاحظ في المصنوعات الزُّجاجية خصائصَ تكاد تكون واحدة في مختلف أنحاء الامبراطورية الرومانية.

يعود الفضل إلى زَجّاجين من الشاطئ السوري في ابتكار القوالب المؤلفة من عدة قِطع حيث كانت تساعدهم بالحصول على زخارفَ كثيرةٍ تغطي سطحَ الأواني حتى قِمتِها، وفي صنع الأواني ذات الفَوَهات الواسعة، وكانت هذه القِطعُ الزُّجاجيةُ تشبه أشكال الأواني المعدنيةِ، وأخذت تنتشر في الشرق والغرب أواني صُنعت بطريقة النفخ في قوالب.

نفخ الزجاج
الزجاج المنفوخ في القالب
  • الزجاج المنفوخ في الهواء بواسطة إسطوانة

توصّل بعضُ الزَجّاجين منذ بداية القرن الأول الميلادي إلى طريقة نفخ الزُّجاج في الهواء بدون الاستعانة بالقوالب، فنجحوا في إبداع أواني زجاجية جميلة تدل على مقدرتهم بالتَّصرف بالمادة الزُّجاجية لما تتميز به من خصائصِ التَّكيف، ما دامت معرضةً للحرارةً، فمن السَّهل تعريضها للحرارةِ للحصول على الأشكال المتنوعة التي تدلُّ على مهارةٍ وخبرةٍ مهنية وذوق فنِّي رفيعٍ.

وقد أتاحت هذه الطريقةُ الجديدةُ للزَجّاجين عمل أواني زُجاجية تتألف من عدة انتفاخات يعلو بعضُها بعضاً، وكان لونُ الزُّجاج أزرق أو أخضر مشوباً بالزُّرقة. أخذ الزجَّاجون يميلون إلى إيجاد الصفاء في لون الزُّجاج الذي أصبح لا لون له، وهكذا انتشر الزُّجاجُ المجرَّدُ من كل لون والمتميّز بخاصة الشفافية الكاملة حتى أصبح عامًّا في أواخر القرن الثاني الميلادي.

وكان الزَجّاجون يهدفون للحصول على طريقة سهلةٍ واقتصادية تعتمد على تجريد الخاصة التلوينية في الأكاسيد المعدنية لا سيّما أكاسيد الحديد، كما تفننوا في تزيين الأواني الزِّجاجية بخيوط زُجاجية مختلفةِ الأشكال، وقد ازدادت قيمة الزُّجاج الفنيَّة وأهميته الجمالية في القرن الثالث الميلادي، وبدأ صُنّاع الزُّجاجِ يهتمون بالمظهر الخفيف للزُّجاج ويميلون إلى الشكل الدقيق له.

الزجاج المنفوخ في أرمناز

الزُّجاجُ الذي يُصنّع في سوريةَ من أجمل الأنواع في العالم، وكان العصر الذهبي لتلك الصِّناعة في سورية في نهاية القرن الثاني عشر، وامتد إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وانتهى تقريباً في عام 1400م لدى استيلاء تيمورلنك على دمشق ونهبها.

وبقيت صناعة الزجاج التقليدية مستمرةً في سورية وخاصةً في بلدة أرمناز، حيث أُتيحَ لأهالي هذه البلدة التي ترقد في سَفحِ جبل الأعلى توافر المواد الأولية اللازمة لصِناعة الزُّجاج فأبدعوا فيها.

ساعد على انتشار صناعة الزجاج مَهارة سُكَّان أرمنازَ واختصاصهم الذي لا يزال معهم حتى اليوم، وإنّ مادة البيرين أو العرجون المستخرَجَةِ من مُخلَّفات عصر الزَّيتون، اُستخدمت كمادة احتراق في الأفرانِ.

كان في أرمناز أكثرُ من عشرين فُرْناً لصناعة الزُّجاج عملت فيها أكثر من عشرين عائلةً، وقد شاركتْ المرأةُ في أعمال متنوعة في هذه الصِّناعة عدا أعمال النَّفخِ فهي تتطلب جُهداً كبيراً، وقد انتشرت شهرةُ هؤلاء الصُّنّاع حتى وصلت أعمالهم إلى قصور السلاطين والأمراء والولاة، وحدث أن استقدم السلطان عبد الحميد الثاني اثنين منهم وأنعم عليهم بالهدايا وبرواتبٍ مدى الحياة تقديراً لجهودهم في هذه الصِّناعات الفنية.

أصاب هذه الصِّناعة فَتَراتٍ من التَّراجع أبرزها عام 1949م، حين أصابَ الصَّقيع أشجارَ الزيتون فقضى على قسمٍ كبيرٍ منها، مما دفع الأهالي للهجرةِ مؤقتاً، وفي عهد الانتداب الفرنسيّ كما في فترة مابعد الاستقلال بدأ استيراد الزُّجاج الأجنبي الذي زاحم على هذه الصِّناعة فأثَّر عليها، أما فَتَراتُ الازدهار فكانت قليلةً في العهود الحديثة.

نلاحظ اليوم تراجعَ صِناعةِ الزُّجاجِ المنفوخِ في أرمنازَ، وتناقص عددُ معاملِ الزُّجاج، ولكنَّها ما زالت حيّةً تُصارع للبقاء رَغم كلِّ الظروف ليبقى زُجاج أرمناز مضرباً للمثل بجودته.

 

المراجع

  • حريتاني،محمود:صناعة الزجاج تقليد مستمر في بلدة أرمناز، مجلة الحوليات الأثرية، مج 40، 1990م.
  • زهدي،بشير: لمحة عن الزجاج القديم وروائعه في المتحف الوطني بدمشق، مجلة الحوليات الأثرية، مج 10، 1960م.