رحى للمدن القديمة

الترجمة في حضارات الشرق القديم “ثقافةُ التواصل بعدة لغات”

للشرق القديم الأسبقيةُ في ابتداع الكتابة منذ الألف الرابع ق.م. وتمثلُ الكتابةُ الوسيلةَ الأساسيةَ لتدوين وحفظ اللغات. ولترجمة النصوص بتعدد لغاتها الدور في نشر الإبداعات الفكرية والثقافية للحضارات، بالإضافة إلى دورها الأساسيّ في التواصل مع مختلف الشعوب بتعدد لغاتهم وأماكن تواجِدِهم.

أسبابُ نشأةِ الترجمة في الشرق القديم

تشير الدلائل الأثرية إلى مساهمة منطقة الشرق القديم في إرساء الأُسس المعرفيّة والمهنية للترجمة لتلبية الاحتياجات في الاتصال المتبادل منذ الألف 3 ق.م. فنشأتْ الترجمة بين المجتمعات والأمم كضرورةٍ لُغويةٍ، وعندما برزت الحاجة إلى التواصل والتفاهم فيما بينها في مختلف جوانب الحياة، ولاسيّما في المجالات التالية:

المجال الاقتصاديُّ

استدعتِ العلاقات التجارية وما يرافقها من اتصالات ثقافية بين الحضارات، إلى وجود مترجمين لتيسير التفاهم وتعزيز جسور التعاون في مختلف المجالات.

وبسبب تنقلِ المبعوثين التجاريين والدبلوماسيين براً وبحراً، كانتِ الحاجةُ إلى الترجمة للتغلب على عوائِق الحدودِ اللغويَّةِ والفروقِ الثقافيَّةِ، فكان من البَديهيِّ أن تنشأَ الترجمةُ التبادليةُ في الاتصالات التجاريَّة.

تمّ العثور على العديد من النصوص التي تحمل طابعاً تجارياً تُثبتُ حركة الترجمة في المجال الاقتصاديّ خلال القرنين 13-14 ق.م. فسجلتِ النصوصُ المسمارية في بلاد الرافدين علاقات أصحابها التجارية بجيرانهم واستقبال ملوكهم البعثات والوفود التجارية في القصور الملكية لإبرام الاتفاقيات الاقتصادية التي صاغها مترجمون محترفون

رقيم مسماري من كول تبه (كانيش)
نص تجاري عن اقتراض فضة بين آشور وكول تبه في الأناضول في بداية الألف 2 ق.م (متحف المتروبوليتان في الولايات المتحدة الأمريكية)

المجالُ السياسيُّ والعسكريُّ

دلّ التاريخُ العسكريُّ للشرق القديم على إنجازات ملموسة في مجال الترجمة وعلى الدور المِفصليّ لعمل للمترجمين. فقد كانت الحاجةُ شديدةً إلى تعلم كبار القادة الحربيين للغات البلاد التي تواجهُهم، فتواجد الكتبةُ المترجمين بين صفوف المؤسسة العسكريَّة لإعداد وكتابة التقارير.

كما برزَ دورُ المترجمين في عملية استجواب الجواسيس الذين يقومون برصد تحركات جيوش العدوِّ وجمع المعلومات اللازمة. وأحدُ الأدلة ما جرى في معركة قادش المصوّرِة على جدران معابد عديدة كالأقصر وأبيدوس والرامسيوم وأبو سمبل، حيث كشفت عن إحدى الاستراتيجيات العسكريّةِ الحثية لاستدراج الجيش المصريّ والايقاع به عن طريق تسريب معلومات خاطئة عن مكان تموضع الجيش الحثي.

معركة قادش في معبد أبو سمبل في مصر
معركة قادش في معبد أبو سمبل

المجال الدُّبلوماسيُّ

انعكست العلاقات الإقليمية والدولية للممالك والمدن فيما بينها على اللُّغةِ وحركة الترجمة. حيث لجأتْ بعضُ ممالك الشرق القديم إلى الترجمة باعتبارها من أفضل الطُرق لنشر المراسيم الملكيَّةِ في كافة أرجاء الولايات المختلفة. فضمّ بلاط الملك الفارسي الاخميني إكسيريس الأول (486-465 ق.م)، عدداً كبيراً من المترجمين بهدف التواصل والتفاهم بين كافة أرجاء مملكته مُترامية الأطراف.

وكانتِ البعثاتُ الدبلوماسيةُ المتبادلة بين كبار الملوك آنذاك تَلقى الاهتمام وتُقابل بمراسمَ ملكيةٍ احتفاليةٍ في حضور حاشية البلاط الملكيّ بما فيهم كبار المترجمين الملكيين الذين يترجمون كلماتِ التقديمِ المقدَّمة من رؤساء المبعوثين على لسان ملوكهم قبل تسليمهم الرسالةَ.

لقد امتازت بعضُ الرسائل الملكيَّة بخاصة التذييل حيث تضمنت أسماءَ الكَتَبَة بالإضافة إلى تفسيراتٍ لبعض العبارات والمفردات الغامضة، وأساليب تهجئتها صوتياً. فمن إحدى التحديات التباينُ بين اللغات في مضامينها الثقافية والفكرية والاجتماعية وتعذُّرُ الترجمةِ الحرفيةِ.

اللُّغة العالميُّة “لغةٌ موحدةٌ للتواصل”

اعتمد المشرِقيُّ القديمُ لغةً مشتركةً بحيث تُرجمت نصوصٌ ورسائلُ اللغاتِ المحلية المُرادُ تداولها إليها، باعتبارها لغةَ تَعاملٍ دوليةٍ ليس فقط في العلاقاتِ السياسيةِ، بل كذلك في المعاملاتِ التِّجاريةِ.

ولا شكَ أنَّ ثَمَّةَ علاقة ٌ بين اللغةِ العالمية والتَّرجمةِ، فتفرض اللغةُ العالميةُ مكانتَها اللغويةَ وتنشر ثقافة أصحابها الحضارية. ومن أبرز تلكَ اللغاتِ:

معاهدة السلام بين المصريين والحثيين أحد دلائل الترجمة إلى اللغة العالمية
معاهدة السلام (متحف استنبول)

اللغة الأكّديّة

هي لغة سُكّان بلاد ما بين النهرين الرسمية إلى جانب اللغة السومرية في الألف الثالث ق.م. انتشرت اللغة الأكّدية وخطُّها المسماريُّ خارج بلاد النهرين في بلاد عيلام جنوب غربيّ إيران (أواسطَ الألف 3 ق.م) وكبادوكيا في شرقيِّ الأناضول (مطلع الألف 2 ق.م) وعدد من المدن والممالك السورية القديمة (أواسط الألف 2 ق.م).

اُستخدمت اللُّغةُ الأكّديةُ في التخاطب والمُكاتباتِ الرسميَّةِ والمراسلاتِ الدوليَّةِ بين حُكَّامِ وملوك الشرق القديم في أواسط الألف 2 ق.م وكُتبتْ بها كلُّ المعاهدات الرسمية المبرمة بين بُلدان الشرق القديم. فهي أشبه باللغة الدبلوماسية التي يتفاهمُ بواسطتها الحكام والملوك الذين يتكلمون لغاتٍ محليةً وأنظمةً كتابيةً مختلِفةً عن بعضِها.

من أهمِّ تلك المعاهدات هي معاهدةُ السلامِ التي عُقدت بين المصريين والحثيين في عام 1269 ق.م. دُوِّنت باللغة المصرية بالخطِّ الهيروغليفيِّ والأكّدية الدوليةِ بخطها المسماريِّ. وتُعدّ من أقدم الوثائق في إبرام المعاهدات في تاريخ الشرق القديم.

تمّ الكشف عن النسخة المسمارية لهذه المعاهدة في العاصمة الحثية خاتوشا (بوغازكوي) حيث عثر منها على ثلاثة ألواحٍ، اثنان منها محفوظٌ في مُتحفِ إسطنبولَ والثالثُ في مُتحف برلينَ، بينما نُقشت نسختها الهيروغليفية على جدران معبدي آمون بالكرنك والرامسيوم. وهناك نسخةٌ باللغة الاكّدية من نص المعاهدة منصوبَةً عند مدخل مجلس الأمن الدوليّ التابع للأمم المتحدة بنيويورك.

أبرزت المعاهدةُ أهميةَ دور الترجمة والمترجمين في العلاقات الدولية من خلال قيام كبار المترجمين الرسميين بترجمة تلك المعاهدات الرسمية من لغاتهم المحلية إلى اللغة الأكّدية الدولية.

اللغة الآرامية

بدأت تَحلُّ اللغةُ الآرامية منذ أواسط الألف الأول ق.م مكانَ اللغةِ الأكّدية، لسهولة تدوين حروفها ولانتشارها الواسع في عددٍ من البلدان والأقاليم المجاورة والبعيدة كالأناضول ومصر وشمال الجزيرة العربية. ولقد استخدمها أيضاً مُلوك الفُرسِ الأخمينيين.

شارك الآراميون في حفظ وترجمة تُراثِ الشرق القديم إلى لغتهم وكذلك عملوا على تطويره بسبب تأثرهم واحتكاكهم لاحقاً بالتُّراث اليونانيِّ لينقلوه بعد ذلك إلى الحضارة العربية.

وظلّت اللغة الآرامية تحتل هذا المركز المهمِّ واستمرَ التدوينُ بها قروناً عديدة إلى أن نافستْها اللغة العربية وحلّتْ مَحلَّها، إلا أنّها لم تندثر تماماً إذ لا تزال مستخدمة حتى الوقت الحاضر في بعض المناطق المتفرقة الموجودة في سوريا والعراق وإيران.

اللغة اليونانيَّة

ما لَبِثَتْ اليونانية أن انتشرت بشكلٍ واسعٍ لاسيما بعد فتوحات الإسكندر المقدونيِّ. فتداولها الفلاسفةُ والعلماءُ خارج نطاق أثينا في القرون الثلاثة قبل الميلاد. ومن آثار انتشارها في منطقة شرق المتوسطِ، ومصرَ، بروزُ مراكزَ ثقافيةٍ في الإسكندرية وبعض المدن السورية. وقد قامَ المترجمون في هذه المراكز بنقلِ علومِ مِصرَ القديمةِ إلى اللغة اليونانية.

اللغة اللاتينية

أصبحت اللاتينية لغة دولية حتى بعدَ سقوطِ الدولةِ الرومانيَّةِ، حيث أَقبلَ الناسُ على تعلُّمِها وتعليمها خصوصاً في الأوساط العلمية.  قام ليفيوس أندرونيكوس Livius Andronicus في روماقُرابةَ عامِ 240 ق.م بتـرجمة الأوديسـا إلى اللُّغـةِ الـلاتينيَّةِ.

الكلمات الدالة على الترجمة والمترجمين في حضارات الشرق القديم

سجلتْ منذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد كلٌّ من النصوصِ المصريَّةِ القديمةِ والنصوص السومرية كلماتٍ تدل على التَّرجمةِ والمترجم.

ففي مصرَ في عصر الدولة القديمة في الألف 3 ق.م أُطلِقتْ تَسميةُ “إعاو ” بمعنى “مترجم” على المجموعة المصاحبة للمبعوثين الرسميين إلى البلاد الأجنبية للدلالة على المترجمين.

المترجم في النقوش الهيروغليفية في مصر كدليل على الترجمة
دلالة المترجم في النقوش الهيروغليفية في مصر

سَجلتْ الآثارُ المصريةُ ظاهرةَ تَقلُّدِ كبارِ حُكامِ أسوانَ خلال عصر الأسرة السادسة لقبَ “المشرف على المترجمين / إمي را إعاو” وُفقاً لنقوش مقابرهم الصخرية في قُبَّةِ الهوا غربَ أسوانَ. وجاء ذلك نتيجة دورهم الحيويِّ في تأمينِ سُبُلِ التِّجارةِ وقيادة البعثات الاستكشافية التجارية. ويعدّ رئيس المترجمين حرخوف من أشهر هؤلاء الحكام والرحالة المستكشفين التجاريين نحو الجنوب.

الحاكم حرخوف في مقابر قبة الهوا ورمز المترجم كدليل على الترجمة
رئيس المترجمين حرخوف في قبة الهوا

ولقد وردَ في النصوصِ المسماريَّةِ السومريَّةِ الاصطلاحُ السومريُّ الرئيسُ “إيمي-بال eme-bal” بمعنى “مُبَدّلُ أو مُغَيّرُ اللسان أو الكلام” للإشارة إلى الشخص القادر على الانتقال من لُغةِ إلى أُخرى وهو المترجمُ.

وسَجَّلَ أحدُ الألواحِ من لكش السومريَّةِ (حوالي 2100 ق.م) مجموعة من المترجمين مقسَّمين إلى ثلاث مراتب: مرتبة المترجمين المعروفين باسم eme-bala، ومرتبة المترجمين الملقبين بلقب رؤوساء المترجمين ugula eme-bala، في حين شغلَ القسمُ الثالثُ وظيفةَ مُترجِمِي قوافل التجارة eme-bala-kaskal وهم المكلفون بمرافقة القوافل التجارية الكبيرة التابعة للقصر الملكيِّ.

ونُقِشَ على خَتْمٍ اسطوانيٍّ مُؤرخٍ بأواخرِ العصرِ الأكّديِّ، شخصيةُ المترجمِ الأكّدي شو- إيليشو Shu-ilishu الذيكان يشغَلُ وظيفةَ مترجمِ لغةِ ميلوخّا (في وادي السند) eme.bal.Me.Luḫ، وفقاً للنص االمسماريِّ المُصاحِبِ له.

ختم اسطواني عليه نقش المترجم الأكدي
ختم اسطواني عليه نقش المترجم الأكدي Shu-ilishu (متحف اللوفر)

وذَكَرتْ في ايبلا في المعاجم السومرية-الإيبلوّية ثنائيةُ اللغةِ التي يعود تاريخها إلى عام 2350 ق.م، نفس التَّسميةَ السومريَّةَ “إيمي-بالا eme-bala” ونقلَتْها إلى لغتها بنفس المعنى.

ثُمَّ ظهر في الألف الثاني ق.م الاصطلاحُ الأكّديُّ الدالُ على المترجم وهو “ترجومانّو targumannu” والذي شاع استخدامه في النصوص الآشورية المكتشفة في مستوطنات الآشوريين التجارية في كابادوكيا بالأناضول خلال القرنين التاسع عشر والثامن عشر ق.م. وواشتُقتْ من هذا الاصطلاحِ الأكّديِّ كلماتٌ أُخرى بعدةِ صِيغٍ مُختلِفة مثل:

الصيغة الآرامية “تورجمينا Tūrgemānā” بمعنى مترجم و”تَرجوم Targum” بمعنى ترجمة، والصيغة الأوجاريتية تَرْجوميانو Targumiyānu”، والصيغة العربية “تَرجُمان Tarjumān”. كما انتقلت نفس الكلمة في اللغة اللاتينية بعدة أشكال مختلفة مثل: Trujaman، وفي اليونانية Dragoumanos ، وكذلك في اللغات الأوربية الحديثة مثل الإنجليزية Dragoman  والإيطالية Dragomanno وغيرها.

المعاجمُ اللغويةُ “مراجعٌ للمترجمين”

لعلّ ابتكار المعاجم اللغوية من أبرز الإبداعات الحضارية الناجمة عن التفاعل اللغويّ في المجتمعات الشرقية القديمة، وإحدى النتائج البديهية لظاهرة التعدد اللغويّ فيها.

بلاد ما بين النهرين

كان للازدواجية اللغوية في بلاد سومر وأكّد منذ مطلع الألف الثالث ق.م أكبر الأثر في تأليف وتنظيم أنواع معينة من المعاجم ثنائية اللغة (السومرية-الأكّدية) والتي تمثل أقدم نوعٍ من أنواع المعاجم المعروفة حتى الآن.

تشيرُ الدراسات إلى وجود ثلاثة أنواعٍ منها منذ مطلع الألف 2 ق.م. نظراً لوجود أكثر من لهجة سومرية واحدة في الاستخدام فقد نظّمت بعض المعاجم موضحةً المفردة اللغوية السومرية إلى جانب اللهجة السومرية الرئيسية، وأضيف إلى ذلك المعنى باللغة الأكّدية. وغيرها من المعاجم منها ضمّت سلسلة معظم العبارات والصيغ القانونية والفنية والمفردات اللغوية السومرية التي كانت مُستخدمةً في العقود والوثائق على اختلافها وإلى جانبها ترجمتها باللغة الأكّدية.

رقيم مسماري من نينوى
معجم لغوي يشمل اللفظ السومري والكلمة السومرية وما يقابلها باللغة الأكّدية من موقع نينوى في الألف 1 ق.م (المتحف البريطاني)

إبلا

شمل الأرشيف الملكي في إبلا 2400-2250 ق.م على عدد كبير من النصوص الدبلوماسية والمعاجم اللغوية. كان هناك احتكاكٌ حضاريٌّ مستمر من جانب سكان إبلا بالسومريين واستخدموا كتابتهم المسمارية في تدوين لغتهم. فألفوا معاجم أحادية اللغة ومعاجم ثنائية اللغة إما بالسومرية-الإبلوية أو العكس.

أوجاريت

عُثر في أوجاريت ضمن كافة المكتبات الملكية والشخصية على ثروةٍ لغويةٍ من النُصوصِ المعجميَّةِ متعددة اللغات (السومرية والأكّدية والحورية بجانب اللغة الأوجاريتية المحلية)، التي تعكس التنوع اللغويَّ والثقافيَّ والانفتاح الفكريّ الذي كان سائداً في مملكة أوجاريت خلال النصف الثاني من الألف 2 ق.م.حيثُ عاشتْ فيها عِدةُ جالياتٍ أجنبيةٍ مختلفةٍ كالحثية والقبرصيَّة والمصريَّة.

فاللغات الرئيسة الثلاث التي استخدمها الأوجاريتيون في معاجمهم اللغوية هي: السومرية باعتبارها لغة الأدب والثقافة الكلاسيكيَّة، واللغة الأكّدية بوصفها لغة عالمية، وأخيراً اللغة الحوريّة نظراً لوجود الحوريين في أوغاريت. لذلك كانت هذه المعاجم تُقسم إلى أربعة أعمدة متقابلة بالترتيب التالي: سومرية وأكّدية وحورية وأوجاريتية.

ولم تقتصر النصوص المعجمية الأوجاريتية على المعاجم اللغوية التعليمية، وإنما اشتملت أيضاً على معاجم لاهوتية ثنائية اللغة (حورية-أوجاريتية) من أسماء الآلهة المعبودة. بالإضافة إلى العثور في المكتبة الجنوبية بالقصر الملكي على معجم أبجدي يضم بالأبجدية الأوجاريتية وأمام كل حرف منها العلامة المقطعية الأكّدية التي تقابله لفظياً.

رقيم مسماري من أوغاريت
رقيم بقائمة أسماء الآلهة في أوجاريت (متحف اللوفر)

مصر

عثر في مصر على معجم مصري-أكّدي اكتشف بين ألواح تل العمارنة (في الألف 2 ق.م) قسم إلى ثلاثة أعمدة بحيث ضم العمود الأول المفردات المصرية وما يقابلها في اللغة الأكّدية البابلية في العمود الثاني، بينما تتضمن العمود الثالث النطق الصوتي للمفردات الأكّدية بالعلامات المصرية. وكان الهدفُ من ذلك هو تدريب الكتبة المصريين المبتدئين على تعلم الأكّدية البابلية قبل التحاقهم إلى فئة الكتبة المترجمين في القصر الملكي. فكان هناك ضرورة لغوية مدفوعة بحاجة دبلوماسية اقتضت تأليف مثل هذا المعجم.

أبرز الشواهد الأثرية على الترجمة والتعدد اللغوي

الترجمة في الشواهد المصرية القديمة

لعلّ من أشهر الأمثلة على ترجمة الرسائل الملكية هي رسائل تل العمارنة، خلال حُكم امنحوتب الرابع أخناتون حيث كانت محفوظةً في الأرشيف الملكيّ المخصص لحفظ المراسلات. تغطي هذه الرسائل الأحداث الجارية في منطقة الشرق القديم في أواسط القرن 14 ق.م. دُونت جميع الرسائل بالخط المسماريّ واللغة الأكّدية باعتبارها اللغةَ الدولية المعتمَدة في أواسط الألف 2 ق.م باستثناء رسالتين مكتوبتين بالحثية وثالثة بالحورية. ولقد ورد بكثرة في الرسائل المترجم والمبعوث الملكي المدعو خاني.

رسالة من تل العمارنة دليل على الترجمة إلى اللغة الأكّدية
الوجه الخلفي للرقيم
رسالة من تل العمارنة دليل على الترجمة إلى اللغة الأكّدية
رسالة الملك آشور أوباليت إلى ملك مصر في الألف 2 ق.م (متحف الميتروبوليتان)

وهنالك غنى في الموروثات المكتوبة باللغة الآرامية التي تعود إلى الألف الأول ق.م. يعود تاريخُ هذه الوثائق إلى الفترة ما بين 500 و400 ق.م، واُكتشف الجزء الأعظم منها في عاصمة إقليم أسوان وهي جزيرة إلفنتين حيث كانت مقر الحاكم الفارسيّ وقائد الحامية العسكرية. ومن أشهر الأعمال الأدبية الآراميّة المرتبطة بالأدب المصري القديم خصوصاً في مجال الحكمة قصة أحيقار الحكيم التي ذاع صيتها في العالم القديم وتُرجمت إلى عدة لغات منها السريانية الآرامية وغيرها الكثير.

وهنالك أثر متضمن نص ثنائي اللغة باللغة المصرية والآرامية، عبارة عن مسلة اُكتشفت في سقارة تؤرخ إلى عام 482 ق.م .

مسلة من سقارة
مسلة من سقارة تتضمن كتابات هيروغليفية وآرامية (متحف برلين)

 من أشهر النصب المتعددة اللغات حجر الرشيد، محفوظ حالياً في المتحف البريطاني في لندن. نُقش عليه قرار تُرجم إلى ثلاث لغات الهيروغليفية في أعلى الحجر (الكتابة المقدسة)، والديموطيقية (اللغة العامية اليومية للمصريين) في وسطه وأخيراً النص اليونانيّ (وهي لغة البلاط الرسمي). واتضح من خلال ترجمة النص اليوناني أنه قرار للكهنة المصريين أصدروه عام 196 ق.م. والنص عبارة عن شكر الكهنة للملك بطليموس الخامس (حكم في المدة 203- 180 ق.م) على عطاياه التي قدمها للمعابد.

حجر الرشيد Rosetta Stone دليل الترجمة إلى ثلاث لغات
حجر الرشيد (المتحف البريطاني)

الترجمة في بلاد ما بين النهرين

تميزت بلاد ما بين النهرين بظاهرة الازدواج اللغويّ من خلال استعمال اللغتين السومرية والأكّدية في وقت واحد ولقرون عديدة. وتمتعت بموقع جغرافيّ متميزٍ كان له أهميةٌ تجاريَّةٌ، لذلك كان من البديهيّ العثور على أولى الوثائق الدالة على ظهور عملية الترجمة ومهنة المترجمين ضمن الوثائق الاقتصادية العديدة داخل المؤسسات الرسمية كالمعابد والقصور الملكية.

نظراً لتعدد وتنوع اللغات الأجنبية التي كان يجيدها الكتبةُ المترجمون خاصةً في العصر الآشوري الحديث، فقد تَمّ تصنيفهم حسب تلك اللغات وأنواع خطوطها. كان أبرزهم الكتبة الآراميون المعروفون بتسمية “الكتبة المترجمين على الرّق” وهم الكتبة الذين استخدموا الجلود في الكتابة وكانوا يكتبون بالخط الآرامي واللغة الآرامية، علاوة على الكتبة المصريين أو كتبة البردي الذين يتقنون مهارة التكلم باللغة المصرية القديمة والتدوين بخطها الهيروغليفي.

كان هنالك حركةُ ترجمةٍ للتراثِ الأدبيِّ السومري من قبل الأكّديين الذين أضافوا إليه بما يتناسبُ مع أفكارهم ومعتقداتهم. على سبيل المثال قصة الطوفان السومرية المترجمة إلى لغات أخرى كالحثية والحورية مع وجود بعض الاختلافات عن نسختها المترجمة بالأكّدية لكن دون المساس بجوهرها الأصليّ، فالمنقذُ الإلهيُّ في اللغة السومرية هو إيا في مقابل إنكي باللغة الأكّدية وهي إحدى الفروقات.

من أمثلة النصوص الثنائية اللغة ما عثر عليه في مكتبة آشور بانيبال في نينوى،تتضمنُ أمثالاً وقائمةً بالمواقع الجغرافية، وغيرها العديد من النصوص.

رقيم ثنائي اللغة من مكتبة آشور بانيبال في نينوى
أمثال ثنائية اللغة من مكتبة آشور بانيبال من الألف 1 ق.م (المتحف البريطاني)

الترجمة في عيلام

اعتاد بعض ملوكِ الفُرس الإخمينيين على نقش نصوصهم العسكريَّة والمدنيَّة بعدة لغات وبالكتابة المسماريَّة حيث عثر في بلاد فارس على كتابات كتاباتٍ ثُنائيَّةٍ وثلاثيَّةٍ اللغة، بالعيلامية والفارسيَّة القديمة (الإخمينية) إضافة إلى الأكّدية البابليّة. أهمها وأشهرها الكتابات المنقوشة على سَفْحِ جبل باغستان وهي النقوشُ المعروفة بحجر بهستون نسبة إلى وجوده في قريةٍ معروفةٍ باسم بهستون عند أسفل الصخر. الحجرُ عبارة عن قسمين يتضمن أحدهما مشهداً يصوّر الملك الفارسيّ الاخمينيّ دار الأول (522-486 ق.م) مع كبار الدولة والجيش وهو يستعرضُ أمامه قادة العُصاة والمتمردين المكبّلين. أما القسمُ الآخر فهو عبارة عن نص مترجم إلى ثلاث لغات هي الفارسية القديمة والعيلامية والبابلية الأكّدية وهو مكتوب بالكتابة المسمارية.

حجر بهستون
حجر بهستون

فالحاجة إلى الترجمة حاجةٌ أساسيَّةٌ مُغرَقةٌ في القدم، بدأت منذ العصور التاريخية الأولى واستمرت وتطورت في العصور التالية، وكان للترجمة في العصر الإسلامي الدور في نقل شتى العلوم والمعارف إلى اللغة العربية. وإلى اليوم الترجمة تخصصٌ علميٌّ له أهميته في التطور الحضاري وفنٌ في التواصل مع ثقافات العالم أجمع.

 

المراجع

  • وحيد محمد شعيب. تاريخ الترجمة في الشرق الأدنى القديم.ط1. 2021م.
  • فؤاد عبد المطلب. الترجمة في الحضارات القديمة. مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق. مج83. ع3. سورية 2008م.
  • أحمد ارحيم هبو، عدنان رشيد مامو. آثار بلاد الشام القديمة (1). مديرية الكتب والمطبوعات. جامعة حلب 2013م.
  • سلطان محيسن، آثار الوطن العربي القديم. جامعة دمشق. 1988م.