مارس الانسان طقوس الدفن منذ العصور الحجرية القديمة، وأقدم الأمثلة على ذلك ظهرت عند انسان النياندرتال، وهناك شواهد أثرية تؤكد ذلك كتلك التي وجدت في كهف الديدرية في سورية وكهف شنايدر في العراق.
تأثر الشعوب بالحضارات السابقة لهم
خلال العصور الكلاسيكية، تأثر الاغريق بالكريتيين والمصريين في بعض جوانب طقوس الموت، فقد دفنوا موتاهم في توابيت من الصلصال أو في جرار ضخمة، وكانوا يضعون معه القليل من الطعام والأدوات والدمى والاشياء الثمينة، وبالنسبة للأيونيين فقد اعتقدوا وطبقوا عملية حرق جثث الموتى لاعتقادهم بأن الدخان يحمل أرواح الموتى الخفيفة إلى الأعالي وينقلها إلى السماء، كما كانوا يخافون من أرواح الموتى ويرون أنها قادرة على إيذاء او اسعاد الأحياء.
طقوس الدفن عند الإغريق
كان الاغريق يعتقدون أن روح الميت تذهب إلى مملكة هاديس تعيش حياة خاوية، وهناك اعتقاد أكثر رسوخاً وانتشار يقول ان مصير الأرواح مرتبط بقيام الاحياء بأداء واجبات الطقوس المفروضة فوق جثة الميت، وإن روح المتوفى الذي لم يدفن مع مراسم الجنازة في قبر، لن تجد الراحة والسكينة في عالم الأموات، وكانت نساء الميت هم من يقومون بتطهير البيت وتحضير الميت للسفر للعالم السفلي، وكما ذكرنا بأنه كان يتم ارفاق الميت بالمجوهرات والطعام والشراب ومرآة وأسلحة، ولكن الاسبرطيين لم يتبعوا هذه العادة ودفنوا موتاهم بطريقة تعكس فقرهم.
وكانوا يعتقدون بوجوب ارفاق الطعام والشراب مع المتوفى وكانت غالباً ما توضع أو تسكب عند القبر لكي تستمر حياة الميت، وكانت الغاية من الطقوس الجنائزية تهدئة الروح وتجنيب الاحياء الانتقام والمتاعب التي قد تلحق بهم من جراء عدم إتمام الطقوس بشكل جيد، وقد قدس الاغريق موتاهم، وشكلت عبادة الموتى لديهم جزءاً ملموساً من ديانة العائلة الشعائرية.
طقوس الدفن عند الرومان
تأثر الرومان بالإغريق والاتروسكيين وطوروا مفاهيم مختلفة عن الحياة الاخرة، وقدس الرومان اسلافهم بشكل كبير، وجرت العادة أن أفراد العائلة هم من يتكفلون بطقوس وتكاليف الدفن، أما الأشخاص الذين قدموا خدمات جليلة للعامة فيمكن أن يدفنوا على نفقة الدولة أو المدينة، وكانت هناك حالات أخرى تقوم فيها جمعيات متخصصة بالدفن.
اعتبرت الطقوس المصاحبة للوفاة وسيلة لإظهار العائلة الاحترام للمتوفى وكانوا يضعون قطعة من خشب السرو (الصنوبر الجبلي) عند مدخل البيت كتنبيه على وجود حالة وفاة.
ومن الطقوس التي كانت سائدة، أنه يجب ان يتم تقبيل الميت من أحد أقربائه لكي يقبض على روحه الهاربة، ومن المعروف أن بعد وفاة أغسطس قبلته زوجته ليفيا القبلة الأخيرة، ثم يتم اغلاق عيني المتوفي، ثم توضع الجثة على ركبتيها لمدة قصيرة ثم تمدد على الأرض للغسل والتكفين الذي كان يتم من قِبل أفراد العائلة أو من طرف شخص يطلق عليه اسم (Pollinctor)، وكان يتم تزين الميت بالأوسمة التي قد حازها في حياته من أجل التباهي.


ثم يوضع الميت على سرير خاص بالجنازة داخل فناء منزله مقابل المدخل الرئيسي، ورجلا الميت متجهتان إلى الباب كرمزية للخروج من الحياة الدنيا والتوجه إلى الحياة السرمدية، ويحاط جسد الميت بالشموع المضاءة والورود ليتشكل بعد ذلك الموكب الجنائزي أمام المنزل في وضح النهار، ويضم هذا الموكب حاملي الشعلات، وذلك تبعاً لتقليد قديم دفع الرومان للاعتقاد أن النار والضوء يمنحان الحماية ضد التأثيرات السيئة، والفترات الأكثر قدماً كان المكلف بنقل الجثة إلى القبر أو المحرقة يسير بالجثة ليلاً تحت ضوء المشاعل وذلك لمنع القضاة والكهنة من رؤية الجثة، وقد تم هذا التقليد مستمراً بالنسبة للأطفال في العصر الجمهوري، أما بالنسبة للبالغين فكان يتم ذلك في وضح النهار.
الطقوس المرافقة لنقل المتوفى إلى القبر
اثناء نقل جثة الميت إلى القبر كان يسبق النعش فرقة موسيقيين يحملون أبواقاً ويرافقهم نائحات محترفات يغنين ترانيم خاصة بالإضافة لوجود راقصات توكل إلى احداهن تمثيل دور الميت، كما يرتدي أصدقاء الميت وعائلته ملابس داكنة أو سوداء ويمشون بجانب الجثة، وكان من المتعارف عليه أن يغطي الرجال رؤوسهم، أما النساء تستدل شعرها ويظهران حزنهم بالبكاء واللطم على الخدود وضرب صدورهن والهتاف بصوت عالي باسم الميت.


واثناء الجنازة تقوم فرقة بارتداء ملابس طقوسية ووضع اقنعة جنائزية، كما يمثل الميت بقناع شرط أن يكون ممن شغلوا مناصب مرموقة أو قاموا بأعمال جليلة، ويصنع هذا القناع من الشمع، وتشمل الجنازة موكباً للأسلاف، حيث يقوم بدورهم ممثلون يضعون أقنعة ويمتطون عربات رائعة، وهذا كان يعني عودة الأجداد المرموقين وفيه إشارة إلى الأصالة والنبل في العائلة، كما تعني رمزية عودة الأجداد للمشاركة في الجنازة.
بعدها يتوقف الموكب الجنائزي مؤقتاً في الساحة العامة (الفوروم) حيث يتلو ابنه الكبير أو أحد أفراد العائلة كلمة مدح للميت، بعد ذلك يتوجهون بالجنازة إلى خارج المدينة من أجل الدفن او الحرق، لأن التعليمات الدينية تمنع دفن الموتى داخل المدن.


عادة حرق الجثث عند الرومان
يذكر المؤرخون أن الرومان في البداية كانوا يمارسون الدفن ثم تحولوا للحرق، فمنذ القرن الثامن قبل الميلاد عرف الرومان حرق الجثث إلى جانب الدفن، وكان الحرق الطريقة المفضلة للكثيرين منهم، ومع حلول القرن الأول قبل الميلاد عاود الرومان الرجوع للدفن مرة أخرى، ولأجل تفادي الاضرار الناجمة عن الحرق، انشأوا محارق خارج أسوار المدن، وكانت تستغرق مدة حرق الجثة حوالي 7-8 ساعات، وأحياناً يحرق مع الميت اشيائه الشخصية، وكان قبل الحرق يتم نزع جزء من جسم الميت كالأصبع مثلاً ليدفن لاحقاً
بعد عملية الحرق يتم تبريد رماد الميت بسكب الخمر والتربة الخفيفة أو الماء على الرماد الباقي ثم توضع البقايا في جرار جنائزية تحفظ في المنزل أو القبر، وكان بعض الأثرياء يتباهون بدفن الرماد في مقابر أو أضرحة باهظة الثمن على طول الطرق المؤدية إلى بوابات المدينة، أما بالنسبة للجنود الذين لقوا حتفهم بشرف في ساحات القتال، فإنهم يدفنون في مقابر جماعية.


طقوس الدفن عند البيزنطين
استمرت هذه الطقوس مع بعض الزيادة والنقصان أو التعديل حوالي الالف عام على الأقل في منطقة الشرق بتأثير من الاحتلال اليوناني وبعده الروماني ومن ثم البيزنطي، من القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي تقريباً مع بدايات الفترة البيزنطية قبل أن تتبلور الديانة المسيحية، إذ أن تلك الطقوس لم تتخلص من العادات السابقة بل أصبحت مزيجاً من التقاليد القديمة والعقائد المسيحية التي تؤمن بعودة الروح إلى الجسد ليحيا الانسان مرة ثانية في العالم الأعلى، وهكذا يتم الاعتناء بدفن الجسد، وتعتبر فترة البقاء في القبر فترة مؤقتة يشارك الميت فيها بتلقي الصلوات والدعوات والتقدمات حتى يحين موعد الحياة الثانية.
اختلاف طقوس الدفن بين الرومان والبيزنطين
الطقوس التي تغيرت في العصر البيزنطي هي أن الميت غالباً ما يكفن والجنازة اقتصرت على الاهل والأصدقاء والاقرباء، ثم تتجه إلى الكنيسة ليصلى عليها هناك وتتلى عليها مقطوعات من العهدين القديم والجديد مع التركيز على معجزة الخلاص للميت، وأحياناً يتم تناول طعام جنائزي من القمح والجوز، ثم تتجه الجنازة إلى المدفن الذي اما ان يكون قبراً عادياً أو من طراز المعازب (خشخاشة)، فيوضع فيه الميت وهو في التابوت الذي يكون غالباً من الخشب عادة ومغلقاً.


ومن العادات التي بقيت مستمرة عادة حرق الجثة ولكن على نطاق ضيق، والمرفقات الجنائزية التي بقيت توضع مع الميت، كالقطع النقدية وأوني الطيب والخمر لمساعدة الميت في فترة بقائه في القبر ليشارك في حفلات التأبين التي ستقام له في المستقبل، وبعض الحلي والاجراس والصلبان لأبعاد الشياطين التي تأتي لتتقاسم نفس الميت كما لها دور في حماية القبر وتقديسه، وبالطبع فقد تغيرت هذه العادات لدى المسيحيين في الوقت الحالي، فالميت لم يعد يغسل ولم يعد يكفن، أو يترك في البيت ثلاثة أيام بل يدفن في اليوم التالي ما عدا الأشخاص ذو المكانة الرفيعة، وبالنسبة للمرفقات الجنائزية فقد اختفت، وأصبح يكتفى ببعض الأشياء الرمزية مثل المسبحة والصليب.
وبشكل عام فأن دراسة الطقوس والمعتقدات المتعلقة بالدفن تعطينا صورة عن طبيعة الحياة التي كانت سائدة في تلك العصور والمعتقدات الدينية التي كان الانسان يؤمن بها.
المراجع:
- المعتقدات الاغريقية، خزعل الماجدي.
- المعتقدات الرومانية، خزعل الماجدي.
- الطقوس الجنائزية خلال الفترة الرومانية بمدينة كويكول، السعيد خاشة
- المدافن والطقوس الجنائزية في ريف دمشق، إبراهيم عميري، سوزان روبه
- طقوس الدفن في ريف دمشق خلال العصرين الروماني والبيزنطي، محمود حمود، مجلة مهد الحضارات ع17-18.