استخدم الانسان الرموز للدلالة على أشياء معينة منذ عصور ما قبل التاريخ واستمر في استخدامها في العصور اللاحقة وصولاً إلى العصور الإسلامية وخاصةً الفترة المملوكية. فقد استخدم المماليك (1260-1516م) الرموز أو ما يعرف باسم (الرنوك) بكثرة، والرَّنك: بتشديد الراء وفتحها، جمع (رُنُوك)، وهي كلمة فارسية تعني (لون). وقد أشار القلقشندي أنه كان من عادة كل أمير أن يكون له رنك يخصه بألوان مختلفة بحسب ما يختاره.
وكان لكل سلطان أو أمير أو موظف كبير في الدولة شعار (رنك) يختم على ممتلكاته. ولم يقتصر استخدام الرنوك على العمائر فحسب بل استخدمت أيضاً على الأختام والأعلام والملابس والاواني.. الخ.
ولهذه الرموز أهمية كبيرة في عملية التأريخ فهي تساعد في تأريخ الأبنية والقطع الأثرية ومطابقتها مع الفترة التي سادت فيها.
أنواع الرنوك
1- الرنوك الشخصية
وكانت خاصة بالسلاطين فقط دون سواهم وكانت تستخدم لتعبير عن قوة السلطان. أهمها رنك النسر ورنك السبع الذي ارتبط بأشهر سلاطين المماليك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري. ورنك زهرة اللوتس الذي اتخذه السلطان المنصور قلاوون. والجدير بالذكر أن شعار الأسد ظهر في العمائر التي تعود للفترة الأيوبية كباب الاسدين وباب الاسدين الضاحك والباكي في قلعة حلب.
2- الرنوك الوظائفية
ويقصد بها الرنوك التي تدل على الوظائف التي كان يشغلها بعض أمراء المماليك. وهي كثيرة ومتنوعة وتقسم إلى قسمين، الأول هو الرنوك البسيطة التي تحوي رمز واحد. والثاني هو الرنوك المركبة التي تحوي أكثر من رمز ضمن الرنك الواحد. ومن أهم الرموز التي ظهرت على الرنوك الوظائفية هي الكأس الذي يرمز لوظيفة الساقي (الشرابدار) وهو من أكثر الرنوك أستخداماً. البقجة شعار(الجمدار) وهو المسؤول عن ملابس السلطان أو الأمير. والدواة أو المقلمة وهي شعار (الدوادار) وهو كاتب السلطان.


3- الرنوك الكتابية
استخدمت بكثرة على الأبنية المملوكية وكانت خاصة بالسلاطين فقط ولكن استخدمها بعض الامراء على نطاق ضيق في أواخر الفترة المملوكية وربما يعود ذلك لضعف نفوذ السلاطين. وكانت الرنوك الكتابية تتألف من دائرة مقسمة إلى ثلاثة اقسام. في البداية كان يكتب على القسم الأوسط عبارة التعظيم للسلطان مثل (عز لمولانا السلطان) وفي القسم العلوي كان يكتب اسم السلطان. والقسم السفلي يشغله زخارف نباتية. وثم تطور الرنك الكتابي في بداية عصر المماليك الشراكسة وبالتحديد على عمائر السلطان الظاهر برقوق. فأصبح يكتب في القسم الأوسط عبارة التعظيم للسلطان وفي القسم العلوي اسم السلطان، وفي القسم السفلي استبدلت الزخرفة النباتية بعبارة الدعاء للسلطان مثل عبارة (عز نصره). وكان الأمراء يستبدلون رنوكهم الوظيفية برنوكاً كتابية بعد اعتلائهم عرش السلطنة كالسلطان المؤيد شيخ.


الرنوك المملوكية في مدينة حلب
نلاحظ بأن معظم الأبنية التي بُنيت أو جُددت خلال الفترة المملوكية تحوي رنوكاً إما شخصية أو وظائفية بسيطة أو مركبة أو رنوك كتابية.
العمارة العسكرية
وعندما جدد المماليك أبواب وأسوار مدينة حلب بعد أن خربّها المغول، نلاحظ أنهم وضعوا رنوكهم عليها. ويوجد حتى اليوم رنوكاً كتابية على باب الحديد الذي جدده السلطان قانصوه الغوري. وباب قنسرين الذي جدده السلطان المؤيد شيخ ثم السلطان قانصوه الغوري. وباب المقام الذي جدده السلطان برسباي. كما كان يوجد رنك كتابي للسلطان برسباي على واجهة باب النيرب المندثر. ويوجد أيضاً رنوك وظائفية تحوي كؤوس على ساكف باب انطاكية وتعود إلى عملية تجديد الباب في عهد السلطان الظاهر برقوق سنة (792ه/1389م) وفي عهد النائب المملوكي في حلب دقماق الناصر سنة (804ه/1401م).
كما يوجد عدد وافر من الرنوك الكتابية في قلعة حلب. تتوزع على واجهات الأبنية الرئيسية كالبرج المتقدم الرئيسي وبهو وواجهة قاعة العرش الخارجية والداخلية. والبرج المتقدم الشمالي والجنوبي، وهي تعود لعهد السلطانين قايتباي وقانصوه الغوري.


العمارة الدينية
وكذلك الامر بالنسبة للأبنية الدينية، فبعض الجوامع والمساجد والترب المملوكية تحوي رنوكاً كتابية ووظائفية. كجامع التونبغا واشق تمر (السكاكيني) وجامع شرف، وتربة خاير بك في حي المقامات.


العمارة المدينة
وكان للأبنية المدنية نصيبها من الرنوك، كالسبُلان والبيمارستان الارغوني الذي يعلو مدخله رنوك وظائفية تحوي شعار البقجة فقط. والخانات فنلاحظ أن معظم خانات حلب المملوكية تحوي رنوك وظائفية تعبر عن الوظيفة التي كان يشغلها السلطان أو الأمير التي بُني الخان في عهده. وتأكد ملكيته للبناء، مثل خان الصابون وخان خاير بك وخان أبرك (القصابية)، ويتميز خان القصابية بوجود رنكين وظائفيين على جانبي إيوان المدخل، وهذين الرنكين فريدين في طريقة تنفيذهم ولا يوجد لهم مثيل. إذ تم تنفيذهم عن الطريق الرسم بدلاً من النحت كجميع الرنوك الموجودة في مدينة حلب، ووزعت الرموز في كل رنك على ثلاثة أقسام، يتألف القسم الوسطاني من كأس كبير شعار (الشرابدار) ويوجد داخله الدواة شعار(الدوادرا). ويحيط بالكأس من الجانبين زوج من جراب البارود، وفي القسم العلوي يوجد شكل البقجة شعار (الجمدار)، وفي القسم السفلي، يوجد كأس صغير، ويعد هذا الرنك بشكله المعروف هو الأكثر شيوعاً خلال الفترة المملوكية المتأخرة واستخدمه حوالي (47) أمير على الأقل. ويمكن تتبع استخدامه الأول إلى السلطان قايتباي عندما كان لا يزال ضابطاً وثم مَنحه لضباطه الخاصين، واستمر استخدام هذا الرنك حتى عام (922ه) ووصل إلى حد تمثيل الدولة المملوكية.


استمرار استخدام الرنوك في العهد العثماني
بعد نهاية الفترة المملوكية وبداية الفترة العثمانية في المنطقة بقي استخدام الرنك موجود لكن على نطاق ضيق. قبل ظهور الشخصية المعمارية العثمانية. ولدينا مثال عن استمرار استخدام الرنوك الشخصية خلال الفترة العثمانية هو واجهة خان الوزير في مدينة حلب التي تحوي رنوك لسبع.


طريقة اختيار الرنك
كانت أشكال وألوان الرنك خلال الفترة المملوكية لا توضع بطريقة ارتجالية أو عشوائية. بل كانت تسير وفق أسلوب متقن يخضع لقوانين مدروسة اختص بها ديوان أو جهاز خاص بالدولة. حتى لا تختلط رنوك الأمراء بعضها ببعض. ومن المرجح أن تنظيم الرنك كان من اختصاص ديوان الانشاء الذي كان يقوم أيضاً بوضع ألقاب السلاطين والأمراء والمراسم الديوانية، والدليل على ذلك أن كل رنك يختلف عن الآخر. سواء من حيث الشكل أو المضمون أو الترتيب أو الألوان ودرجاتها.