رحى للمدن القديمة

حركة الترجمة في الدولة الإسلاميَّة

إنَّ حركة الترجمة أو التعريب من أكثرِ الموضوعاتِ أهميةً وإثارةً في تاريخِ الفكرِ العربيِّ، فقد واجه العربُ الأوائل الثقافة اليونانيَّة التي كانت سائدةً في العالمِ القديمِ، وقد مرت التَّرجمةُ في المشرق العربيِّ الإسلاميِّ بمراحلَ عديدةٍ من التطور، ابتداءً من القرن الأوَّل الهجريِّ حتى وصلت إلى ذروتِها في بغدادَ في مُنتصَف القرن الرابع الهجري.ِّ

 

بدايةُ حركة الترجمة والتعريبِ في الدولةِ الإسلاميَّةِ

يَعتَبرُ البعضُ أن بدايةَ حركةِ التَّرجمةِ كانت من خلال ترجمة الرسائل التي كان يبعثها النَّبيُّ محمدُ صلَّ الله عليه وسلَّم إلى ملوك الدول التي يدعوها للإسلام، وفي العصر الراشديِّ لم تختلف الترجمة عما كانت عليه في عصر النَّبيِّ صلَّ الله عليه وسلم.

حركة التعريب

حركة الترجمة في العصر الأمويِّ

وقد بدأتْ الترجمةُ في العصر الأمويِّ لكن على نِطاق ضيِّقٍ، وذلك بسببِ انشغالِ الدولةِ بالفتوحِ وحماية الثغورِ وتأمين الدولة الناشئة، ومن أبرزِ الشَّخصيات التي لَعِبَت دوراً في هذا المجال هو الأميرُ خالدُ بنُ يزيدَ، الذي كرَّس جهدَه للطبِّ وترجمةِ كُتبِ الكيمياءِ والطبِّ إلى العربيَّة.

ويعدُّ العصرُ الأمويُّ حَجَرَ الأساسِ لبناء حركةِ الترجمة رَغْم أنّها كانت بدائيةً وضعيفةَ المستوى، وكانتْ مقتصَرةً على بعضِ العلومِ ِ كالكيمياءِ والطبِّ، دون التطرق إلى العلوم العقلية كالمنطق وعلم النفس وما وراءَ الطبيعة.

ومن الكتبِ التي تُرجِمت من السريانيَّة إلى العربيَّةِ في ذلك العصر، كتابُ (كناش) في الطبِّ، من تأليف أهرون بن أعين القس، حيث قام بترجمتِه الطبيبُ البَصْريُّ ماسرجويه وهو من أشهرِ المترجمين في الدولة الأموية، وذلك في أيام الخليفةِ مروانَ بنِ الحَكَمِ، وحُفظ الكتاب في خزائن كتب الأمويين إلى أن أخرجه الخليفةُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ونشره بين الناس لِتَعُمَّ الفائدةُ على الجميع.

حركة التعريب

حركة الترجمة في العصرِ العباسيِّ

أما في العصرِ العباسيِّ شهدتِ الدولةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ في عهدَ العباسيين ازدهاراً ونشاطاً ثقافياً واسعاً بفضل رعايةِ الخلفاءِ وعلى رأسهم الخليفةُ أبو جعفرَ المنصورِ الذي عمل على تقريب العلماءِ وشجَّع الاطلاع على علوم الأمم الأخرى وترجمة المفِيد منها حيث كان اهتمامُ المنصور ينصبُّ على الطبِّ والفَلَك.

وتختلف حركةُ التَّرجمةِ في العصرِ الأُمَويِّ عن العصر العباسيِّ بأنَّها في العصر الأُمَويِّ  كانت جهوداً فرديةً، أما في العصرِ العباسيِّ تبنَّاها الخلفاءُ وكبار رجال الدولةِ، كما كانت هناك بِعْثاتٌ علميةٌّ لجلبِ الكُتُبِ من المناطق المفتوحة حديثاً.

ونشطت حركةُ التَّرجمةِ من اليونانيَّةِ إلى السريانيَّة وبرزت أسماءُ بعضِ المترجمين في هذا العصر كـ سرجيوس (الرأس عيني) الذي تَرجم آثارَ جالينوس في الطبِّ والأخلاق وآثارَ أرسطو المنطقيةَ إلى السريانيَّةِ، وعبدِ اللهِ بنِ المُقَفَّعِ الذي تَرجم حكاياتِ كليلة ودمنة من الفارسيَّة إلى العربيَّة، ويُقال أنّه ترجم بعضَ كتبِ أرسطو في المَنْطق.

وتطورت الترجمةُ والتعريبُ في عهد الخليفةِ المأمونِ فقد أصبحتْ حركةً متكاملةّ لها أثرٌ كبيرٌ على ازدهار الحضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة، وفضلاً على الحضارةِ الغربيَّة فيما بعد، وذلك لأنّها حفظت التراثَ اليونانيَّ وتعهدتْه بالترجمةِ والتطويرِ.

حركة التعريب

المراحلُ الثلاثةُ التي مرَّت بها حركة الترجمة في العصرِ العباسيِّ

المرحلةُ الأولى من عامِ (135هـ/752مم) إلى عامِ (194هـ/810م) يبدأ بعهدِ الخليفةِ أبي جعفرَ المنصورِ، وينتهي بعصرِ الخليفةِ هارونِ الرشيدِ  حيث اهتمَّ الرشيد بالترجمة، فأمرَّ بأخذ الكتبِ الموجودةِ في مدينةِ أنقرة وعَمُّوريَّة وترجمتها بعد سيطرته على هاتين المدينتين، وقد كان يوحنا بن ماسويه رئيساً لبيتِ الحكمة، وأوَّلُ من نقلَ الكتب الطبيَّةَ القديمةَ، وترجم كتابَ المنطقِ لأرسطو، كما نقل الحجَّاجُ بنُ يوسُفَ بنِ مطرٍ كتابَ الهندسةِ لإقليدس (الترجمةُ الأولى) وسُمِّيت ترجمتُه بالهارونيَّة لأنَّها تُرجمت في عهد هارونِ الرَّشيدِ فُنسبتْ إليه، وكانتِ التَّرجمةُ الثانيةُ في عهد المأمونِ وسُمَّيت المأمونية.ُ

 

المرحلةُ الثانيَّةُ كانت من عامِ (198هـ/814م) إلى عامِ (300هـ/916م)، فقد تطورتْ حركةُ الترجمةِ في عهدِ الخليفةِ المأمونِ بفضلِ رعايته لها، وشجَّع تَرجمةَ الكتب من مختلِف اللغاتِ وفي كلِّ العلومِ كالطبِّ والرياضياتِ والفلسفةِ والفَلَك، وكان بلاط ُالمأمون مكاناً لتجمع العلماء والفقهاء والمترجمين أمثالَ الطبيبِ والمترجم يوحنا بن ماسويه، وأبناءِ موسى بنِ شاكر.

وقد اهتمَّ المأمونُ بالعلوم العقلية وعلى رأسها الفلسفةُ، فأمر بترجمةِ كتبِ الفلسفةِ اليونانيَّةِ التي جلبت مع البعثات التي أرسلها المأمون إلى ملكِ الروم.

المرحلةُ الثالثةُ تبدأ من نهايةِ عامِ (300هـ/916م) ، وأكثرُ ما تُرجِم في هذه الفترةِ كتبُ المنطقِ والطبيعة، وتَرجمةُ كتبِ الفِلاحةِ النَّبْطيةِ على يد أحمدَ بنِ عليٍّ المختارِ النَّبْطيِّ المعروفِةِ بابن وحشية، وكانتْ هذه المرحلةُ تعتمد على جهودِ المترجمين الفردية أكثر من الخلفاء، وأصبحت اللغاتُ الهنديَّة والفارسيَّةُ واليونانيَّةُ شائعةً ومتداولةّ بين العلماء.

حركـة التعريب

حركة الترجمـة في عَهْدِ دولةِ المماليكِ

في عهدِ دولةِ المماليك استمرت حركةُ التَّرجمةِ نتيجةً لدخولِ فئةٍ أجنبيَّة في الدولةِ وهم المماليكُ الذين استكثر من شرائهم السلاطيون والأمراءُ الأيوبيون ، وهم من أصلٍ غيرِ عربيٍّ ومعظمُهم من بلادِ القبجاق والتُّرك والمغول والصَقالبة والإسبان والألمان والجراكسة وغيرهم من العبيد الأبيض، فكان تعريب المماليك ضرورة حيوية لبقاء الدولة وتوحيد اللغة والثقافة لأجناس المماليك المختلفة.

حـركة الترجمـة والتعريب

ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى ازدهار حركة الترجمة هو حث الإسلام على العلم، وحاجة العرب لعلوم الآخرين.

 

 

المراجع:

  • حركةُ التَّرجمةِ  وأثرُها في الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ في العصر العباسيِّ الأول (العراقُ ، الشامُ ، فارسُ)، جمانة راسم عمران المنبر.
  • الترجمةُ والتعريبُ بين العصرين العباسيِّ والمملوكيِّ، سمير الدروبي.
  • الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميةُ، عمار النهار وشعلان الطيار.
  • تاريخُ العربِ والإسلامِ، حنيفة سرماني.