تعتبر النار الإغريقية من أكثر الأسلحة الفتاكة التي كانت تستخدم في الحروب قديماً، يُنسب اختراعها إلى المهندس المعماري كالينيكوس Kallinikos من هليوبوليس ويختلف الباحثون ان كانت هليوبوليس التي هي بعلبك أو ان كانت عين شمس التي في مصر، وعاش في منتصف القرن السابع الميلادي، كان في أوائل الأمر في خدمة المسلمون، ثم هرب إلى القسطنطينية ووضع خبرته في خدمة البيزنطيين، وظل هذا السلاح سري لا يعرف تركيبه إلا صانعيه، وكان الأباطرة يمدون حلفائهم به دون أن يطلعونهم على سره، وبقي الأمر كذلك حتى القرن 5هـ/11م فقد اكتشف العلماء المسلمون بعد جهد كبير سر هذه النار وكيفية صنعها، بل وطوروها عن قبل فأصبحت أكثر فتكاً وأصبحت تعرف بالنار الإسلامية.
مخطوط يعود للقرن الحادي عشر للميلاد يحوي صورة لسفينة تنفث النار الاغريقية
مكونات النار الإغريقية
تتكون هذه النار من مزيج من مواد سريعة الالتهاب مثل الكبريت والنفط وبعض الراتنجات والأدهان في شكل سائل يطلقونه من أسطوانة نحاسية مستطيلة، أو يتم إطلاقها على شكل كرات مشتعلة أو قطع الكتان المشبع بالنفط.
يذكر لنا الطرسوسي طريقة مفصّلة لتحضير هذه النار، وتتألف مكوناتها من نفط وكبريت ومسحوق نورة غير مطفأة وزيت الأترج والكتان ودقيق التبن ونخالة الحنطة ودهن البلسان وشحم الدلفين وصمغ السندروس وزيت الراتينج وقشر التوت وقشر البيض، وبمزج هذه المواد بطرق خاصة وأوزان معينة يتكون خليط مركب له قوة هائلة في الإحراق، ويضيف الطرسوسي ان تحضير النار كان من الأسرار التي ينبغي الاحتفاظ بها لعدم تسريبها إلى العدو.
واشتهرت هذه النار بقوة فعلها وأضرارها البليغة، فهي تزداد اشتعالاً عند تعرضها للماء والهواء، ويقال انها إذا اشتعلت أحرقت الحديد والحجر، ولا تنطفئ حتى تأتي على آخر ما تقع عليه وتحرقه، وتظل مشتعلة مدة شهر وأكثر، ولا تنطفأ إلا باللبود المبلولة بالخل والشب والنطرون، وعرفت بأسماء عديدة كالنار الاغريقية أو النار البحرية لما لها من أهمية كبيرة في معارك البحر.
كيفية إستخدام النار الإغريقية
تحدث (ليو) في كتبه بإستفاضة عن النار الاغريقية، فقد ذكر مكوناتها وطريقة قذفها، فقد كانوا يصبون مكوناتها في أسطوانة نحاسية مستطيلة كانوا يشدونها في مقدم المركب، ومن هذه الأسطوانة يقذف السائل مشتعلاً أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتان المعجون بالنفط فيقع على السفن فيحرقها.
قذف النار الإغريقية من البحر
يتم قذف هذه النار عن طريق آلة تسمى النفاطة أو الزراقة، إلا أنهم أصبحوا يطلقون المواد المشتعلة بالسهام أو المجانيق لأنها تقذف لمسافات أبعد وأصابتها أدق، والجندي الذي يقوم بالأطلاق يسمى بالنفاط أو الزراق وكان يرتدي ثوباً خاصاً غير قابل للاشتعال، وكان يوجد تجافيف وهي نوع من الدروع للوقاية من النار كان يرتديها الفُرس التي تحمل النفاط.
قذف النار الاغريقية من البر
دور النار الإغريقية في فشل حصار القسطنطينية
كانت النار الاغريقية من أبرز الأسباب التي أدت إلى فشل المسلمون في حصار القسطنطينية الأول زمن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الذي امتد ست سنوات من 56هـ/674م حتى 60هـ/679م، فقد فوجئ العرب بسلاح جديد لم يكن مألوف بالنسبة لهم، واستخدمها البيزنطيون كوسيلة دفاع تسببت في بث الذعر في نفوس المحاصرين للمدينة، وكان لهذا السلاح أثر حاسم في صد المسلمون عن القسطنطينية، مما اضطرهم إلى رفع الحصار عنها.
المعارك على أسوار القسطنطينية
تعرُّف العرب على سر تركيبتها وتطويرها
عندما تعرّف العرب على سر تركيبة هذه النار، أدخلوا فيها الكثير من التحسينات، على صعيد التركيبة وطرق الاستعمال، فقد أخذوا يضيفون إليها بعض الصموغ التي تزيد من اشتعالها، ومن حيث الاستعمال فقد أخذوا يزودون بها أساطيلهم على نطاق واسع، حتى أصبحت حديث الشعراء.
فقد قال الشاعر أحمد ابن يس الصقلي يصف النار الاغريقية التي تستعملها أساطيل العرب:
رأوا حربية ترمي بنفط لأخماد النفوس له استعار
كان المهل في الأنبوب منه إلى شي الوجوه له ابتدار
كان منافس البركان فيها لا هول الجحيم بها اعتبار
نحاس ينبري منه شواظ لا روح العلوج به بوار
وما للماء بالاطفاء حكم عليه لدى الوقود ولا اقتدار
وكان أبرز استخدام لها خلال الحروب الصليبية في عهد دولة الأيوبين والمماليك، فقد كانت النار الاغريقية شديدة الفتك بالصليبين الذين كانوا يجهلون استعمالها، ويقول أومان:
“إن النار الاغريقية تبدو قليلة الاستعمال جداً في الغرب فلم يكونوا متأكدين من تركيبها، واستمر جهلهم إلى ما بعد انتهاء العهد الأيوبي”
وخلال العهد الأيوبي استخدمها الجيش في عدة معارك لا سيما في دفاعهم عن مدينة عكا، وحرقهم مجانيق العدو وأبراجه، فقد أحرقوا بقذائفهم دبابة ابن ملك الألمان الهائلة التي دخل تحتها ألوف الناس، وكان لها رأس عظيم برقبة طويلة.
النار الاغريقية في كتابات الغرب
وصفت الأميرة (انا كومنينا) ابنة الامبراطور البيزنطي (الكسيوس كومينوس) الذي شهد عصره الحملة الصليبية الأولى، هذه النار في كتابها عن تاريخ حياة أبيها فصورتها حين تعلو في الجو وحين تشتعل ثم حين تنقض كقطعة من الجحيم فتشوي الناس شياً وتتركهم مع متاعهم رماداً تذروه الرياح، وأشارت الأميرة إلى تركيبها المشابه للتركيب الذي ورد عند الطرسوسي.
ويذكر الكاتب الفرنسي (دي جوانفيل) في كتابه (ذكريات عن الحروب الصليبية) أن المسلمون بقيادة كل من الظاهر بيبرس البندقداري والأمير أقطاي استخدموها ضد الصليبين في معركة دمياط الثالثة التي دارت رحاها بعد وفاة آخر ملوك الأيوبيين الصالح نجم الدين أيوب عام 646هـ/1248م، ويصف لنا الذعر الكبير الذي استولى على قلوب الصليبين، يذكر في مذكراته ليومي6و7 من شهر فبراير عام 1250م
“في غسق الليل جاء المسلمون بآلة عجيبة ووضعوها اتجاه الأبراج التي كنا ساهرين على حراستها، أنا والسير والتر كوريل ثم قذفونا منها بشيء ملأ قلوبنا بالدهشة والرعب، نار كأنما هي الأدنان المشتعلة وذيولها من خلفها مثل الحراب الطويلة ودويها يشبه الرعد، كأنها جارح يشق السماء ولها نور ساطع جداً من جراء عظم انتشار اللهب الذي يحدث الضوء، حتى انك ترى كل ما في المعسكر كما لو كان في وضح النهار”
و يضيف على لسان صديقه (السير ولتر دي كوريل):
“أيها السادة نحن في خطر داهم لأن العدو لو صوب النار نحو أبراجنا وبقينا نحن في أماكننا لأتانا الموت من كل مكان، ولو أننا غادرنا مراكزنا التي استولينا عليها للحقنا العار، فلا منقذ لنا من هذا الخطر الداهم إلا الله، فنصيحتي إليكم أن نخر سجداً كلما صوبوا هذه النار نحونا، لنبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من هذا الخطر”
كما يصف لنا (دي جوانفيل) الذعر التي أصاب الملك لويس التاسع من هذا السلاح، ويقول:
“وكانت النار ترسل في انطلاقتها الأضواء الباهرة التي تملأ رحاب المعسكر، فيبدو كأننا في وضح النهار، ولقد صوب العدو النار نحونا هذه الليلة ثلاث مرات، كما أطلقوها من القسى العريضة أربع مرات، وكان الملك القديس كلما سمع أن النار الاغريقية قد صوبت نحونا انتصب واقفاً على سريره ورفع يديه نحو السماء، وابتدأ الصلاة وعيناه مخضلتان بالدموع وهو يقول أيها الاله الطيب احفظ لي شعبي”
ويضيف (دي جوانفيل) ان هذه النار لها صوت يهزم كالرعد القاصف وهي منقضة في الفضاء كتنين هائل من اللهب يطير في الجو متوهجاً بنور كوكب عظيم، ويصفها بالشياطين النارية، ويقول حين قذفهم المسلمون بهذه النار كأنما فتحوا باب جهنم فجأة في وجوههم فاندلعت في أبراجهم الخشبية.
مخطوطة مصور عليها استخدام النار الإغريقية
بقيت النار الإسلامية مستخدمة حتى القرن 8هـ/14م، حيث دخلت عليها تطورات وتعديلات كثيرة أدت أخيراً إلى صناعة البارود، وتعتبر النار الإسلامية أساس هذا الانقلاب الخطير في أساليب الحرب التي عرفها العالم الحديث، وبرهن المسلمون على أنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام أي سلاح جديد يفاجئهم به الأعداء، وأنهم قادرون على استغلاله فيما بعد لصالحهم.
المراجع
الأنيق في المناجنيق، ابن ارنبغا الزردكاش، تحقيق احسان هندي.
التحصينات الحربية وأدوات القتال في العصر الأيوبي بمصر والشام زمن الحروب الصليبية، مرفت عثمان.
موجز عن الفتوحات الإسلامية، طه أبو عبية.
الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين، محسن محمد حسين.
نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس، ج1، سالم الخلف.
تاريخ العرب والإسلام، حنيفة سرماني.
الحملة الأخيرة على القسطنطينية في العصر الأموي، سليمان السويكت.
الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، ج1، علي الصلابي.
المماليك البحرية وقضائهم على الصليبين في الشام، شفيق جاسر أحمد محمود، مجلة الجامعة الإسلامية، ع 81-82.
البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية، سعاد ماهر.
الأساطيل العربية في البحر الأبيض المتوسط، إبراهيم العدوي.
A History of Greek Fire and Gunpowder, J.R.Partington.
Medieval Siege Weapons (2), David Nicolle and Sam Thompson.
NAVAL FIRE/LIQUID FIRE. BYZANTINE „MIRACLE” WEAPON AND THE QUESTION OF ITS FAMILIARITY TO THE BULGARIANS BETWEEN THE 7th AND 11th CENTURY, MACIEJ KOKOSZKO, MIROSŁAW J. LESZKA.