رحى للمدن القديمة

المقاهي الشعبية بَوتَقة مجتمعية

 

كانت المقاهي الشعبية تشكل جزءاً اساسياً، وعنصراً هاماً في تكوين المدينة في بلاد الشام خاصة في فترة العصر العثماني، وكان لانتشارها قيمة فاعلة في نشر الثقافة والترفيه خاصة في مدينة دمشق وضواحيها فقد ترافق ظهورها بفنون متعددة ارتبطت بعادات المكان وقصصهم .

بدايات القهوة في دمشق:

انتقلت القهوة إلى مصر والشام من طريق الحجيج والتجّارة، وكان أوّل ظهور لها في دمشق خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، وروي أنّ الشيخ سعد الدين علي بن محمّد العرّاق هو أوّل من أدخل القهوة إلى دمشق عام 1540، حيث أفتى مُفتي دمشق قطب الدين محمد بن سلطان الحنفي بتحريمها، وظلّت كذلك حتّى بدايات النصف الثاني من القرن ذاته، إذ يذكر لنا المؤرّخ نجم الدّين الغزّي أنّ أول من أَشهَرَ شُرب القهوة على العلن هو علي بن محمد الشامي 1555، حيث جاء في ترجمته أنّه “أشهَرَ شرب القهوة بدمشق فاقتدى به الناس، ومن يومها كثرت حوانيتها.

ساهمت هذه المقاهي بانصهار الفوارق الطبقية في المجتمع، بعد أن أصبحت الشرائح الأجتماعية التي تجتمع على شرب القهوة خارج إطار التمييز المكاني العمراني، ضمن خليط من طبقات المجتمع لاتميز بين الاعيان والعامة، أو بين الفقراء والأغنياء وكافة طبقات المجتمع .

 

                                                                                   مقهى في دمشق قديماً

 

 تأسيس المقاهي الشعبية:

يرجح ظهورها لأول مرة في النصف الأول من القرن السادس عشر، وتدل وثيقة حملت تاريخ العام (1004ه/1596) م على أن والي دمشق سنان باشا أوقف ثلاث مقاهٍ على منشآت دينية وقد حددت الوقفية موقع بيت القهوة الأول في سوق العمارة والذي لازال موجوداً في دمشق، والثاني سوق السنانية، بينما أنشىء الثالث في خان عيون التجار الذي كانت تقصده القوافل لأهميته التجارية .

وكانت معظم هذه المقاهي الشعبية متوزعة خارج أسوار المدينة والسبب وراء ذلك المعارضة الشديدة للقهوة والمقاهي من قبل رجال الدين الذين لم يسمحوا بإنشاء مقاهي داخل سور المدينة إلا في وقت متأخر من القرن الساس عشر، تحديداً بعد ما يقارب 30 عاماً عن افتتاح أول مقهى .

تطور ظهور المقاهي في القرن الثامن عشر وغدت من فعاليات السوق والمرافق العامة وتشكلت فيما بعض ثقافة خاصة بالمقاهي .

 

                                                                           تطور المقاهي في القرن الثامن عشر

 

أشهر مقاهي دمشق القديمة في القرن الثامن عشر :

اشتهرت في النصف الأول من القرن الثامن عشر قهوة خبيني الواقعة في بستان الشريف المطل على المرجة. في هذه الفترة استمر تنافس تشييد المقاهي ووقفها من أجل الولاة وكبار رجال الإدارة.

توزعت المقاهي في هذه الفترة على عدة محاور، أهمها محور الحج الذي يتجه جنوباً باتجاه السويقة.

وفي القرن التاسع عشر بلغ عدد المقاهي 110 مقهى في جميع انحاء دمشق، كانت تسمى إلى ذلك الوقت بيت القهوة أشهر بيوت القهوة هي قهوة السكرية في باب الجابية وقهوة اللحامين بالقرب منها، قهوة الدرويشية والجاويش في القيمرية وكان يرتاد هذه المقاهي عدد كبير من الأتراك يجلسون فيها ليتمتعوا بالخضرة والماء .

بالانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين نجد أن المقاهي انتشرت انتشاراً كبيراً غير مسبوق خاصة بعد عام 1918م أي نهاية الحكم العثماني وقد ساعد ظهور الكهرباء في دمشق وإيصالها الى جميع انحاء العالم الى تطور هذه المقاهي حيث شهدت دخول آلات العرض السينمائية على يد حبيب الشماس صاحب مقهى زهرة دمشق الذي كان له دور كبير في حياة الدماشقة من أدباء ومفكرين، وكان المكان الأول الذي عرض فيه أول فيلم سينمائي بدمشق.

 

                                                                              مقهى زهرة دمشق

 

وهناك قهوة كان لاسمها حكاية ولوجودها تاريخ طويل قهوة (خبيني) الواقعة نهاية سوق القباقبية واحدة من أشهر المقاهي التي انتشرت في دمشق منذ القدم .

أصل تسمية خبيبني قديم وتعود أسباب تسمية هذه القهوة بهذا الاسم الى العهد العثماني، حين كان العثمانيون يبحثون عن شبان لسوقهم إلى الخدمة العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية فكان الشباب الهاربين يلجؤؤون إليها طالبين الملاذ قائلين لمن فيها خبيني.

 

 

 

                                                                              مقهى خبيني

 

استقطبت هذه المقاهي طبقات مختلفة تنوعت مابين قادة سياسين ومثقفين كانوا يعقدون فيها اجتماعاتهم الوطنية والثقافية. كما ولعبت المقاهي دوراً  أساسياً في ممارسة فنون شعبية متنوعة (خيال الظل، الحكواتي) بقصد التسلية واللهو، ويعد مقهى (النوفرة) على الرغم من صغر مساحته الداخلية، الا انه كان يتمتع بشهرة كبيرة لازالت ممتدة إلى يومنا هذا والسبب أنه لايزال يحافظ على مفردة تراثية هامة وهي فقرة الحكواتي،بعد أن تخلت عنها باقي المقاهي في دمشق مع دخول التلفاز.

 

                                                                                        مقهى النوفرة

 

لقد مرت على هذه المقاهي احداث كثيرة وحصلت ولم يقتصر روادها على فئة معينة فقد كانت ولا تزال البوتقة التي تصهر فيها كافة الطبقات المجتمعية .

اليوم بعد أن أصبح المقهى عنصراً أساسياً من النسيج العمراني المألوف للمدينة الحديثة لايخطر على بال أحد عند الجلوس في المقاهي لاحتساء القهوة أنّ لهذه الحالة الأجتماعية الطبيعية المألوفة تاريخ طويل وحافل، وصراع ديني اجتماعي عريض وعنيف، كما لايخطر لهم مرارة المعاناة الأجتماعية التي صاحبت تطور هذه الظاهرة الجديدة في المدن العربية على مدى ثلاثة قرون من الزمان قبل أن يتقبلها المجتمع كممارسة اجتماعية مألوفة ومطلوبة يخصص لها عنصراً أساسياً في المدينة يوازي أماكن  التجمعات المعروفة آنذاك كالمسجد والحمام. وهكذا جذبت مقاهي دمشق الرحالة العرب والمستشرقين كتبوا عنها الكثير.