كان للعرس الحلبي سابقاً طقوساً تبرز كل ألوان الفرح لأهميـة هذا الحدث في حياة أي فرد أعزب مُقبل على الـــــزواج لما يمثل له عن أسمى معاني الرجولة وتحمل المسؤوليـة وبدأ حيــاة جديدة وتكوين أسرة.
عادات العرس الحلبي الشعبي
جهاز العروس: يبدأ أهل العروس بتجهيز البنت بعد كتب الكتاب للزواج ويخبر والد العريس بأن جهاز العرس قد تم شراؤه. يتألف جهاز العروس الحلبية عادة من مستلزمات منزلية وشخصية وهدايا تجهزه بنفسها مثل فساتين وملابس وتساعدها قريباتها وصديقاتها في تفصيلها فهذه تفصل القماش وأخرى تخطه وثالثه تطرزه.
وكانت الثياب تُخاط بشكل واسع وفضفاض؛ لأن هذه الثياب سترتديها العروس لسنوات طويلة، ولكي تصلح لحالات الحمل والسمنة.
نادراً ما كانت العروس تشتري جهازها من السوق، إلا الأشياء الضرورية التي لا تستطيع صنعها كأدوات الحمام مثلاً كان جهاز العروس لبدلات العرس أعلاه ست بدلات، وأدناه بدلتين، والفقراء يتزوجون حسب حالهم.
وكان جهاز العروس يتألف أيضاً بالإضافة إلى الملابس وجوه مخدات ومحارم مشغولة يدوياً ولحف وفرشات وبقج مطرزة وماكينة الخياطة والصندوق أو البقج واللكن وطاسة الحمام وغيرها.
طقوس مد الجهاز في العرس الحلبي
تقوم العروس بفرش كل أمتعتها وأغراضها لعرضها أمام قريباتها وصديقاتها المدعوات بالمناسبة من طرفي العروسين، أما في مناسبة نقل الجهاز يجهز أهل العريس بيت ابنهم بالفرش وأدوات المطبخ والمؤونة، ويقدم أصدقاء وأقارب العروسين الهدايا المختلفة لتكميل وتجهيز بيت الزوجية.
ويتعلق جهاز العروس بمناسبتان هما:
مد الجهاز ونقل الجهاز إلى بيتها الجديد في مناسبة مد الجهاز. أما في مناسبة نقل الجهاز، يُحدد يوماً لنقل الجهاز، ويأتي أهل العريس وأقرباؤهم وأصدقاؤهم وأهالي حارتهم إلى بيت العروس في موكب بهيج قبيل زفافها بعدة أيام، ثم يبدأ نقل جهاز العروس من بيتها إلى بيت العريس بالطبل والزمر ويرددون (الشّدّيات وهي لون شعر غنائي إيقاعي قديم) مع “عراضة” كبيرة.
العراضة: هي التي يشترك فيها جمع من الأقرباء والأصدقاء وأهل الحي، وفي هذه العراضة يهزج الجميع الله يساووا دوز دوز جي، صلوا على محمد، الزين الزين مكحول العين، ولعادينا (أي الذي يعادينا) الله عليه.
وأحد أهل العراضة يؤدي بعض الشّدّيات مثل:
غنى البلبل مع الطير الله يمسيكن بالخيــــر الله يمسنـــا الأفـــراح وياكن ضـــوا المصباح الله يمسيكــــــــن بالخيــــــر يا عمــــــارة العمـــــارة جينــــــا نخطـــــــب بنتكــــــــن من حارة لحــارة
ويتم نقل الجهاز إما على ظهور الدواب المجملة سروجها بالخرز والوَدَع (صدف تُزَيّن به الدواب) المعصبة رؤوسها بالمناديل الملونة وإما على ظهور الحمالين، وهذا أكثر عند الأكابر وقد اعتاد سكان الأطراف غالباً أن يقدموا أمام الدواب جماعة يلعبون بالسيوف والتِرس والعصي وهم يلبسون العباءات الحمر والقمصان الملس ذات الأكمام الطويلة ويلعبون بالسيف والترس.
يأتي عرض الجهاز، كما ذُكر سابقاً إما عن طريق الدواب أو على ظهور الحمالين حيث يمر حمالو الصواني الملفحة بالشال والمزينة بالزهر، والتي تحتوي على قماقم للعطر وكاسات الشراب والفناجين والروكات والقمباز الوردي للعروس واليشمق والطشت والإبريق وطاسة الحمام واللكن، تحملها “قايمة الحمام”، والقبقاب “الشبرواي” المُعرق باللؤلؤ والمُطعم بالعاج والمُوشى بخيوط الذهب والفضة، وتهنهن النساء عند نقله:
قبقابك ترللي وسيرو بغني يا عروستنا الحلوة بعمرك تتهني
القباب الشبراوي
ثم يمر رجلان قويان يحملان المرآة الحجرية المطعمة بالعاج والمزينة بالريبان، ويمر أربعة رجال يحملون “السكرتون” وهو خزانة الملابس، يتلوهم من يحمل بقجة الحمام، ثم تمر الدواب المزينة، وفي رقبتها الأجراس تدق دقات الفرح، وهي تحمل صندوق العروس، والسجاد والفرش والمخدات والتكايات والدشكات وبدلات العروس وثيابها ونحوها بعد ذلك يأخذ الأصدقاء العريس إلى الولي (الأعرابي) الخاص بالعرسان، فيدور العريس حول ضريح الولي والمنشدون ينشدون المواويل والموشحات، وذلك لكي يبارك الولي للعريس والدخول على زوجته لأنه لا ييسر هذا الفعل إلا إذا ُطرب، أما في يومنا الحالي فقد يتم نقل الجهاز عن طريق السيارات وبدون احتفال كما كان يجري في الماضي.
احتفالات أيام العرس الحلبي الأربعة
من جملة العادات المستعملة لدى الحلبيين أن يجتمعوا عدة ليالٍ قبل ليلة القِران في دار فسيحة ويحضرون فيها طبالاً وزماراً ويفتحون باب الدار لكل وارد فيجتمع إليها جم غفير من أخلاط الناس ويضرب الطبل وينعر الزمر ويقوم اثنان ويتلاعبان بالسيوف كالمتنازلين في الحرب إلى أن يغلب أحدهما فيقوم آخر وهكذا إلى آخر الليل، وقد يقوم اثنان يتلاعبان بالعصي على نسق المتلاعبينب السيوف، وهذا الليالي تسمى بالتعليل.
التعليلة في العرس الحلبي
يجتمع المدعوون وأهل الحي والآلاتية أو “النويتية” والمغنون، والموسيقيون، والدبيكة، يجلسون على كراسي القش في أرض الحوش والايوانات، فينشدون الأغاني والموشحات والقدود والمواويل والشّدّيات، ويرقصون ويلعبون لعبة الحكم، وأذكر من هذه الأغاني على سبيل المثال:
بعد إجراء التعاليل يباشرون حفلة ليلة الِقران وتكون العروس قد أُخذت على الحمام عدة مرات وفي كل مرة منها تُغسل عند خروجها منه بماء الورد.
وقبل ليلة أو ليلتين أي قبل ليلة أو ليلتين من ليلة الِقران يدعوا أهل الزوجة أقاربهم وأحبابهم ويفرقون عليهم نقش الحناء، وتسمى هذه الليلة (ليلة النقش) ويكون المدعوون قد أرسلوا هداياهم على حسب أقدارهم إما أرزاً أو سكراً أو شاةً أو ثوباً هندياً أو غير ذلك..
والحناء نبات يجفف ورقه ويطحن بالعدسة ويخضب به، واسمه مستمد من كلمة فارسية تدل على شجيرته ونقلها. وشجرة الحناء معمرة متساقطة الأوارق وحيدة الجنس والنوع، موطنها الأصلي فارس. نقلها المصريون القدامى إلى إفريقية وأوروبا ولا تزال تغرس في مصر، واستعملوها في التحنيط والتجميل والتعطير.
الحنة عند الرجال
تتضمن هذه الليلة أيضاً الأغاني والرقصات والألعاب، وفيها تصل صواني الحنة ملفوفة بأغطية جميلة معرقة ومطرزة بأشكال من الزهور والطيور الجميلة، والشموع الملونة الزاهية، مفروشة في الحناء، وعند وصولها إلى بيت العريس يخطف الشباب الصواني التي قد تتجاوز العشرين صينية، ويرفعون الأغطية ويشعلون الشموع وعلى ضوئها، يرقصون رقصة اللهيبين؛ لهب القلوب ولهب الشموع، وتُحَنَى يد العريس اليمنى، ثم أيدي الحاضرين.
كان العريس يحني كفه الأيمن فقط وهذا كناية عن الرجولة فيه، دلالة عليه لأن اليد اليمنى هي الساعد القوي للرجل، في الحرب والقتال، ولأنها حاملةُ السيف قبل العريس ليحني يديه ينادي أحد الشباب قائلاً: عريسنا فتح كفو، فيرد الجميع:
الله يساوا دوز دوز جي، صلوا على محمد، الزين الزين مكحول العين والعادينا
ثم يضع العريس كفه على الحنا فيردد أحد أصدقائه قائلاً: عريسنا طبع كفو، فيقول الجميع الله يساوا دوز دوز جي، صلوا على محمد، الزين الزين مكحول العين، والعادينا الله عليه.
وعندما يرفع العريس يديه عن الحناء يقول أحدهم: عريسنا حنا كفو، فيردد الجميع: الله يساوا دوز دوز جي، صلوا على محمد، الزين الزين مكحول العين، والعادينا الله عليه، وبعد ذلك تستمر الأغاني.
الحنة عند النساء
مع مغيب الشمس تقوم مجموعة من النساء، بنقل صواني الحناء وتوابعها من عطور وفل وياسمين ومنثور وأطبق الفضة أو النقش المزخرف، من بيت العريس إلى بيت العروس، وهن يرددن الأغاني والأناشيد وعند وصول صواني الحنة إلى بيت العروس، تستمر الأناشيد والهناهين والزغاريد، ثم تحنى كفا العروس وأم العريس وتهنهن قائلة:
ثم تجري عملية الحنة ووضعها على أكف وأرجل العروس، وبقية النسوة على هيئة رسوم الحيوانات
والأزهار والورود والزخارف والنمنمات الشفافة الجميلة، وتضمد بالقماش.
ليلة التلبيسة
في صباح اليوم الذي يلي ليلة الحناء يحل الرباط ويمسح كفا العروس بالزيت، وتقوم امرأة خبيرة بفن النقش يطلق عليها “النقاشة” وتزين الأَكُف وأقدام الأرجل بالرسوم الجميلة الدقيقة، ثم بقية النساء، وتسمى هذه العملية بالنقش، وأثناء ذلك تهنهن النسوة يا منقشة نقشيها بالحنة لا توجعيها.
ثم تحضر “الداية” بعد ذلك، وتُتمتم في أُذن العروس بعض الكلمات والتعليمات تتعلق بليلة العرس، فتتورد وجنتاها خجلاً وحياءً، وتحضر “القايمة” وتغسل العروس سبعة أدوار، وتضع على رأسها “بيلون” وقد يمزج البيلون بأوارق العطرية وهي نبتة ذات رائحة جميلة، وتجملها “الماشطة” فتزجج لها حواجبها، وتزيل زغب الوجه وترتب الشعر وتجدله، وتضع لها الكحل العربي وبعض الأصبغة والمساحيق، وتقلدها بالأساور، وتضع على جيدها (بروش ألماس)، ثم تجلس في مكان عالي يسمى الكوشة وسط مظاهر الحب والاحترام، انتظاراً لانتقالها لبيت العريس، وفي ذلك تهنهن النسوة:
هاها حمرة بيضة وليبسة كتاني هاها وبالمسك ممزوجـــــة بالريحانــــــي وماقلتلك ياعريس مالها تانـــــي هي نجمة الشرق وأنت الكوكب التاني.
وأيضاً : خـــــــــــــــدودك المــــــرايــــــــــــــــــــــا وزنــــــــــــــــــــــــــــــــــودك طـــــــــــــرايــــــــــــــــــــــا وتسلــــم شويـــــــــــــــرب (فلان) اللـــــــــــــــــي نقاكــــــــــي من بين الصبايا
بالنسبة لأهل العريس فإن النساء في هذا اليوم يأتين إلى منزل الزوج، ثم يتوجه من أقاربه عدة نسوة إلى منزل العروس فتلبس ثيابها ويأتين بها لمنزل زوجها راكبات معها في عجلات مُجَملة تسير بكل سُكون ووقار.
عندما تقترب ساعة الرحيل، وتتهيأ العروس لمغادرة البيت الذي ولدت فيه وترعرعت، تسكب الدموع لفراق أحبتها ووالدها وإخوتها وأخواتها، ولكن كل هذا لا ينفعها وهي تسمعهم يقولون كلمات قاسية قاصمة كالسيف:
الله مـعـــــــــــــــك الله معــــــــــــــــــــك وكل البكــــــا مابينفعـــــــــــك
ونتيجة الشهقات والتنهدات التي تطلقها، يواسونها بلهجة أخف قسوة، ويحثونها على الرحيل:
قومــــــي ياعروس حل الــــرواح والبلبل غنى والديك صاح
وعندما تهم بالرحيل ولم يعد باليد حيلة، تقول وهي مكلومة الفؤاد:
سلموا على الدار وجيرانها وسلموا على أمي الحنونة ياما ليالي لفتني بأحضانها
عندما تنتقل العروس من بيت أهلها إلى بيتها الجديد، تحمل بيدها خميرة من العجين لتلصقاها على باب غرفة زوجها، لدوام الألفة والمحبة ولتعم البركة، وليكون قدومها خيراً وسعادة على بيت زوجها، وما أن تصل العروس إلى منزل زوجها استقبلتها القينات بالدفوف والأغاني.
ثم أُجلست على كرسي مُعد لها واشتغلت القينات بالغناء وتحريك آلات الطرب إلى المساء وفيه تبسط الموائد وتتعشى النسوة ثم يرجعن إلى ما كُنّ عليه من السماع والطرب.
وعالتس تيسه وتيس تيسه وعرسك يوم الخميسه
كان العريس في ليلة الدخلة يحلق له الحلاق، وهو مرتد ثيابه القديمة، وإذا انتهى من الحلاقة يهجم عليه رفاقه، ويخلعون ثيابه أو يمزقونها، ويبررون عملهم هذا بأنهم خلعوا عنه ثياب الجهل والتعتير في مرحلة العزوبية.
ثم ُيلبس نخبة من الحضور العريس ثيابه من خلال إنشاد خاص فعندما يلبسونه قنباز السبع ملوك، ويُبعث شاب بيده فانوس إلى بيت العروس، ليعلموا أهل العروس بحلاقة العريس، حتى يتمكنوا من تسليم العروس، وعندما يوضع له الطربوش على رأسه يقولون:
وتردد النسوة اللواتي يشاهدن العريس من على أسطحة المنازل وكوات الجدران والمشربيات:
هاها وبحوشنا ديلية هاها ومعرشة وعيلية الله يخلــــــي الشباب أهل الطرابيش المايل
ثم تنطلق عراضة تخرج من بيت العريس عابرة الأحياء والأزقة والحواري، متوجهة إلى مكان العروس، الذي يُقام في بعض الدور العربية الرَحِبة الجميلة، وأثناء مسيرة العراضة، يُسلم رجل يدعى “البشاوش” على كل أهالي حارة يمر بها، ويلقي التحية على عكيدها وشباب العراضة ينتظمون صفين ويمشون ببطء، في يد كل منهم قنديل مُنير، وهي تتألف من شباب يلبسون أنواعاً من القنابيز والصايات: السبع ملوك، والتتار، والهندية، ودق الليرة، ودق البسمار، والجتارة، وشباب يلبسون الكبابيد، والشراويل.
ثم تمر العراضة بمقهى الحارة، فيصب القهوجي القهوة لوالد العريس، ثم يكسر الفنجان بعد أن يرتشفه تقديراً أو احتراماً له.
وتطوف هذه العراضة في الحواري والأزقة، ويقف على يمين العريس رجل يدعى “سخدوجاً”، والذي هما يمشي على يساره يُسمى وصيفاً ويصطف جانبيه صفان متقابلان في يد كل واحد من أفراد شمعة موقدة أو فانوس مُسْرَج، وعلى كل واحد منهم غالباً أن يُغني مواليا وعند إتمامه ينضمون إلى بعضهم مثنى وثُلاث وُرباع ويقولون بصوت عاٍل: “الله يساوا دوز دوز..
كذا كانت أعراس حلب مليئة بالفرح والبساطة والعفوية، بعيدة عن التكلف والبذخ، قبل أن تغزو المفاهيم الغربية مجتمعاتنا العربية حيث العرس الحلبي من المناسبات التي يتجسد فيها “فلكلورنا” الذي يعتبر مدلولاً اجتماعياً له معانيه السامية.
المصادر
الاسدي، خير الدين:موسوعة حلب المقارنة، معهد التراث العلمي العربي جامعة حلب ،1987م.
مهملات، عثمان: حلب التراث، منشورات دار القلم العربي، حلب،1994م.
المحسن،حسن :كتاب الأدب الشعبي في حلب. وزارة الثقافة، حلب، 2006م.