رحى للمدن القديمة

الحضارة الطبية المشرقية

يُعتبر علم الطب من أوسع مجالات العلوم الحياتية التي كان للمسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة ولم يقتصر اسهام الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الطبية على اكتشاف الأمراض المختلفة، ووصف الأدوية المناسبة لعلاج هذه الأمراض فحسب، بل اتسع وامتد اسهام المسلمين في الحضارة الطبية حتى بلغ مرحلة الـتأسيس لمنهج تجريبي دقيق يتفوق ويسمو على مناهج المدارس الطبية التقليدية التي كانت سائدة قبل الإسلام.

وقد أصبح معروفاً  أن بدايات الطب ونشوء الحضارة الطبية كعلمٍ ـ بالمعنى الحقيقي للعلم ـ ظهر فـي بلادنا، ولايعود سـبب ذلك إلى تميُّزٍ أجدادنا عن غيرهم، بل يعود إلى ظهور الحضارات الأولى في هذه المنطقة من العالم، وبطبيعة الحال فإن ذلك بدوره يعود إلى ظروف جغرافيةٍ ومناخيةٍ وبيئيةٍ.

وقد مرّ الطب بعدة مراحل تاريخية حتى وصل الى التطور الذي عُرف به وتم تقسيمه إلى:

الحضارة الطبية البابلية:

كان للطب في هذه المرحلة قواعده وضوابطه وقد ذاع صيته قديماً حتّى بلغ اليونان، وقد كشفت مكتبة (آشوربانيبال) عن نصوص طبية ووثائق خاصة بالأمراض العصبية وأخرى بالجلدية وغيرها من الأمراض ووثائق تتعلق بالحمل والولادة.

وقد بلغ الطب عند البابليين درجة من القداسة بحيث اتسع المجمع الآلهي لآله الطب، كما ودرس البابليون والآشوريون التشريح ولاسيما تشريح الكبد وعرفوا التشوهات التي تطرأ على الإنسان، ورافق هذه المعرفة علاجات كانت تستعمل منها ماهو نباتي ومنها ماهو حيواني عن طريق السحر حيث كان للطلاسم نصيب من هذا العلاج .

الطب في الحضارة البابلية
                                                        الطب عند البابليين

 

الحضارة الطبية المصرية

كانت مهنة الطب عند المصريين ينظر لها على أنها إنسانية ولم تقتصر على حكام البلاد والكهنة فحسب، بل كانت لصالح أفراد الشعب من  عمال المحاجر والبناء والجيوش المحاربة.

تميزت الاسـكندرية في العصر البطلمي بريادة الطب، وخاصة علمـي التشـريح ووظائف الأعضاء، وترسـخت النظرية الطبية التي وضعها الإغريق كجزء من فلسفتهم الطبيعية  التي بلورت الـعلوم الطبية.

                                                                                    الطب عند المصريين

 

 

 الحضارة الطبية عند المسلمين:

لم يكن عرب الجزيرة قبل الإسلام معزولين عن حضارة مصر والشام والعراق، فقد أقاموا مدناً مهمةً أسهمت في الحضارة الهلنسـتية كالحضر وتدمر والبتراء قديـماً، المناذرة والغسـاسنة في المرحلة التالية،إضافة إلى تنقل قبائل كثيرة ووصولها إلى شـمال العراق والشام منذ العصر الجاهلي وعلى ذلك فقد كانت المعارف الطبية الهلنسـتية (القبطية والسـريانية) غير خافية على من يعنيهم الأمر في فجر الإسلام.

تعود بدايات الطب العربي إلى العصر الأموي  نتيجة لاتصال العرب المباشر بالمراكز العلمية (الاسكندرية، أنطاكية، الرها نصيبين، جنديسابور) وبمعنى آخر إلى مرحلـة ماقبل عصر الترجمة الذي بدأ مع الرشيد وتطور أيام المأمون وبلغ ذروته أيام المتوكل.

حفظ ابن أبي أصيبعة في  كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) أسـماء عدد كبير من الأطباء الممارسين قبل زمن الرشيد كما وعرف العرب نتيجة لذلك أهمية الطب اليوناني النظري الذي كان جزءٌ منه قد تُرْجِمَ إلى السريانية قبل الإسلام فحرصوا على ترجمته إلـى العربية لأنهم أدركوا ضرورةَ أخذ العلم من مصدره، وبذلك بدؤوا بترجمة (جوامع الاسكندرانيين) من السـريانية إلى العربية، ثـم انتقلوا بعد ذلك إلى ترجمة تراث (جالينوس الطبي) برمته، وهـذا مادفعهم إلـى ترجمة أعـمال ابقراط وديوسـقوريدوس، وعلى ذلك فإن عمليةَ الترجمة جاءت نتيجة لمعرفة العرب للطب، ولم تكن معرفةُ العربِ للطب نتيجةً لعملية الترجمة. فالطب العربي  بهذا المعنى يعد استمراراً للتراث الطبي القديم الموروث عن حضارات العراق والشـام ومصر واستمراراً للطب الهلنستي الذي ازدهر في المدارس السريانية في الشام والعراق.

اتسـمت عملية الترجمة التي بلغت ذروتها أيام حنين بن إسحاق ـ بالشـمول وعمق المعرفة والمقدرة الـفائقة على انتقاء المـادة العلمية والتعامل معها بنظرة نقديـة يقبلـها العقل والمنطق السليم.

تطورت عملية الترجمة  لأّنها تمت على مرحلتين من الإغريقية إلى السريانية وقد أدى انتشار صناعة الورق في العالم الإسـلامي إلى سهولة استنساخ الكتب ووصولها إلى شتى أرجاء الخلافة مما أدى إلى ظهور جيلِ من الأطباء عالمٍ بالطب النظري. وقد سَـهّل اسـتتبابُ الأمن وحريةُ الحركةِ والانتقالِ ضمن دولة الخلافة إلـى تعارف مراكز العلم القديمة، مما أدى إلى تفاعلٍ في الآراء، وإلى نشاطٍ ذهني مبدع أدى بدوره إلى تطور نوعي في سوية الممارسة السريرية والتأليف.

وقد تمكن أساتذة الطب بدءاَ بعصر حنين من هضم العلوم الطبية وتمثُّلها، وبذلك تمكنوا من تبويبها وإعادة تصنيفها مما مهّد الطريق لظهور عددٍ كبير من كـبار المؤلفين في تاريخ الطب عموماً، وتـاريخ الطب العربي خصوصاً، من أمـثال علي ابن رَبَن الطبري وابن ماسـويه  ومحمد بن زكريا الرازي وخلف بن قاسم الزهراوي،وحنين بن إسحاق الذي كان له اسهامات في ترجمة أعمال جالينوس التي لازالت مثالاً يحتذى به في التحقيق العلمي الصارم ولولا عملية الترجمة الشاملة هذه لكانت بعض علوم الأقدمين وتراثهم قد تعرض للضياع.

حنين بن إسحاق
                                                       حنين بن إسحاق

لقد كان عصر الترجمة بحد ذاته غنياً بالإبداع ومهّد بدوره إلـى عصر ازدهار الطب، كما كان ظاهرة فريدة في تاريخ انتقال المعارف العلمية بين الأمم وذلك لأنّ جهود التراجمة العرب تميزت بفاعلية انتقائية لأول مرة في تاريخ الترجمة.

نقلُ الطب الفارسي، والهندي، معرفة عددٍ كبير من الأدوية التي كان يُؤتَى بها من إفريقيا ومن حوض المحيط الهندي.  الاسـتفادة من مصادر آخرى للمعارف الطبية غير التراث المصري والشـامي والعراقي وغير الطب الإغريقي.

إعادة الاعتبارَ للطبِّ النظري الذي مر بحـالة ركود فـي العصر البيزنطي (الهلنستي المتأخر).

ونتيجة لهذا العصر فقد صارت ديار الخلافة الإسـلامية منطقةً حضارية متجانسـة تَصِل حدود تأثيرها إلى شمالي الهند وأواسط آسيا وحدود الصين والقفقاس من جهة، وإلى جنوبي أوربا وأواسـط إفريقيا وسـواحل المحيط الهندي من جهة أخرى. وبسبب وصول الكتب والمدارس والمشافي والأسـاتذة إلى كل مكان في الدولة فقد تحققت ـ ولأول مرة في التاريخ ـ ديمقراطية التعليم الطبي، ولـم تعد القدرةُ على التعلُّم حكراً علـى من يعرفون لغات العلم القديم (اليونانية والسريانية والقبطية)، أو على أبناء الأثرياء.

أهم الانجاازات الطبية

اكتشـفت العرب كثيراً من الحقائق التشـريحية والفسـيولوجية ووضعوا مفاهيم جديدة كتشريح القلب، الدوران الرئوي، آلية الولادة، التشـوهات الولادية، الأمراض الخلقية، العدو، الأمراض الوبائية.

وفي علم التشخيص التفريقي ميّزوا بين كثيرٍ من الأمراض المتشابهة الملتبسة مثل أمراض الجدري والحصبة، والتهاب الرئة وذات الجنب، والتهاب الدماغ وذات السحايا.

وفي علم الإنذار ميّزوا بين المرض السليم والمرض المخوف، وكذلك بين العمل الجراحي القابل للنجاح وغير القابل.

وبيّنوا أهمية الغذاء في المداوة وافتنّوا في اللجوء إلى (الحمية)، وتعددت عندهم أساليب التدبير العلاجي باستعمال وسائل فيزيائية عديدة كالحمام والكمادات، وفي التشخيص لجؤوا إلى جس النبض وفحص البول.

أمّا في الجراحة ابتكروا أساليب جديدة  كربط الشـرايين، اسـتخراج الأورام وحصيّات المثانـة وقاموا بتطوير عددامن الآلات الجراحيـة (الصنانير ذات الـرأس الكـليل، المقدح المجوّف..) ووضعوا مفهوم الأمراض الجراحية، واصرّوا على أنه لا يجوز أن يمارس الجراحة من لا يعرف علم التشريح معرفة تامة، وقد برز في هذا المجال الزهراوي.

وعرفوا التأثير المتبادل بين صحة النفس وصحة الجسد.

أشهر علماء الطب المسلمين
                                                                                              العلماء المسلمين

اغتنت اللغة بظهور آلاف المصطلـحات الطبية  الجديدة حيث ظهرت المعجمات الطبية والدوائية العديدة اللغات وبفضلهم  انتشرت المشافي وتعددت أنواعها وأغراضهامنها  (المشـفى الميداني،العسكري، المجاذم) عرفت المشافي أجنحةً خاصة للأمراض العقلية باعتبار المصاب مريضاً وليس مسـكوناً بروحٍ شريرة، وكانت الموسيقى واحدة من وسائل العلاج كما في البيمارستان النوري في دمشق.

طوروا المنـاهج والمقررات واغتنت المكتبة بالكتب المتخصصة والمراجع وصـار الامتحان إلزامياً يتلوه الحصول على إجازة لممارسة المهنة.

المؤلفـات الطبية

ظهرت الكتب الملخّصة، وتلك التي تُقْرأ قبل الامتحان، وكَتَب عـددٌ كـبيرٌ من المؤلفين ملخصاتٍ وشـروحاً على مؤلفات أسـاتذتهم. وظهرت الكتب المدرسـية والمراجع المتخصصة والمؤلفات الموسـعة العديدة الأجزاء. وظهرت الكتب الوافية التي تجمع المعرفة الطبية كلها بين دفتـي الكتاب. وعرف تاريخ الطب العربي محاولتين لكتابة موسوعة طبية شـاملة: (الجامع) للرازي و(الشامل) لابن النفيس وقد تطور الطب على أيديهم وظخرت مؤلفات مهمة في هذا الحقل.

اسـتندت المنظومة القِيَمِيَّة في الممارسـة الطبية إلى مجموعة من المصادر أهمها التعاليم الدينية: الإسلامية والمسـيحية الموروثة من العصر السريانيّ، إضافة إلى تقاليد المروءة العربية وقَسَمِ أبقراط وتعاليمه، وذلك في كل ما يتعلق باحترام حياة المريض وأسـراره وحرماته.

يقسم الطب إلى قسمين:

حفظ الصحة، واستعادتها في حالة المرض، الوقاية جزءٌ أساسي من الطب فجسم الإنسان هو الذي يعمل للقضاء على المرض بقواه الطبيعية بما فيها قوى النفس وما الشفاء إلا نتيجة لعوامل مادية واضحة لا مجال معها للّبس أو الإيمان بوجود قوىً سحرية.

وكـل ما يقوم به الطبيب من معالجـات دوائية أو جراحية أو فيزيائية إنما هو لمسـاعدة الطبيعة.

وقد اتسم الأطباء العرب بالتواضع الناجم عن التُقى، وعن معرفتهم بأنه لا حدود للعلم، وأن الطب آخذ دوماً في التطور، والخلاصة أن الأطباء العرب غيّروا وجه الـطب فلم يعد مهنةً وصنعةً بل صار علماً شريفاً ورسالةً إنسـانية.

 

المراجع:

الموسوعة العربية: المجلد الثالث عشر

السامرائي، كمال: مختصر تاريخ الطب العربي .

موارني، حميد ، عبد الحليم منصر، قرايات في تاريخ العلوم عند العرب .

سزكين،فؤاد:محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية (معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 1984).